تقارير

نقد روح العصر

المصدر

حسام ميرو

عادة ما يستخدم مصطلح «روح العصر» لتأكيد الموضوعي مقابل الذاتي، وهو مصطلح مرتبط بعلم الاجتماع بشكل عام، وعلم الاجتماع السياسي بشكل خاص، ومنذ استخدامه لأول مرة من قبل الفيلسوف واللاهوتي الألماني يوهان جوتفريد هردر (1744 1803)، عرف هذا المصطلح استخدامات عديدة، معرفية وتربوية وأيديولوجية وتكنولوجية، وهو يشير غالباً إلى الكيفيات والآليات التي تحكم فترة زمنية ما، حيث تهيمن أفكار رئيسية محددة تكون محركة للسياسة والاقتصاد والثقافة والفن، ويمكن أن تصبح بحد ذاتها، مجالاً للمقارنة، باعتبارها أداة للقياس أو المفاضلة بين المجتمعات والشعوب.

العرب في القرن العشرين استخدموا هذا المصطلح بكثرة، أو اتكأوا عليه في خياراتهم المتعددة، وفي مجال السياسة على وجه الخصوص، كانت هناك قراءات سياسية للواقع تنطلق من الربط بين الحاجات المجتمعية والاقتصادية وبين روح العصر، أو ما ينبغي أن يكون عليه، من أجل تحقيق الاحتياجات الأساسية للشعب، ويمكن في هذا الصدد أن نقول إن روح العصر في خمسينات وستينات القرن الماضي في العالم العربي، كانت الروح القومية، ونحن هنا لسنا بصدد تقييم تلك المرحلة، لكن الإشارة إلى روح تلك الفترة من شأنها أن توضح مسألة في غاية الأهمية، وهي أن هذه المقولة لعبت رافعة للنهوض المجتمعي وبناء ما يمكن اعتباره يقيناً عاماً بأن روح العصر القومية العربية، هي المدخل لقلب الموازين في المجالات كافة، داخل المجتمع نفسه أو في العلاقات الخارجية.

في أوروبا، كانت الليبرالية هي روح العصر في القرن الثامن عشر، وأسست لثلاثة حقوق رئيسية، وهي حق الحياة وحق الحرية وحق التملك، وفي مجال السياسة تحولت الليبرالية إلى أساس الممارسة السياسية، وقد مرّت عملية ترسيخها بمنعطفات كبرى من بينها الثورات التي عرفتها كثير من الدول الأوروبية، وفي مقدمتها الثورة الفرنسية، كما شهدت الليبرالية انتكاسات كبرى إبان صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا.

السؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم، ليس فقط في العالم العربي؛ بل على مستوى عالمي، هو: ما روح العصر الذي نحياه؟

إذا ما ذهبنا نحو إجابة مبسطة لا تخلو من الاستسهال المعرفي، فإن تلك الإجابة ستكون النيوليبرالية، بصيغتها المعولمة القائمة على التقانة والاتصالات، لكن هذه الإجابة تحتاج إلى تدقيق كبير، فمصطلح روح العصر له سمة إيجابية على مستوى حكم القيمة، فقد تأسس انطلاقاً من نقد المفاهيم السائدة لمصلحة مفاهيم أكثر ارتباطاً بمفهوم الحرية، في تأكيدها الإنسان/الفرد، لكننا اليوم نعاني فعلياً تباعداً كبيراً؛ إذ لم نقل بحالة الانفصال بين النيوليبرالية وبين القيم والمفاهيم المرتبطة بحرية الإنسان/الفرد.

لقد أسس مصطلح «روح العصر» لنضالات الفرد والمجتمع، في سعيهما لنيل الحقوق وترسيخها، وقد شهد العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين نضالات كبرى أوجدت منظومات قيمية، كانت مجالاً للتضامن، وتحقيق التوازن في عالم الإنتاج الواقعي، بكل ما يتضمنه هذا العالم من إنتاج للمصالح والقيم والقوانين والحريات، لكن في وقفة واقعية اليوم أمام فضاءات التضامن المجتمعية على مستوى العالم، نجد أن هذه الفضاءات تعاني اليوم فقراً في الأفكار والآليات والتنظيم، وأن إنجازاتها تكاد تكون معدومة، فجميع القوى التي كانت يوماً ما تمثل «روح العصر»، خصوصاً الليبرالية والاشتراكية، أصبحت عاجزة عن التأثير الحقيقي، وإحداث متغيرات لمصلحة الفئات التي تعبر عنها.

وفي تناقض واضح بين الشعارات والواقع، قامت القوى الكبرى/النيوليبرالية بحروب مباشرة أو غير مباشرة بتدمير بلدان كاملة، أو الإسهام في تدميرها، كما في احتلال الولايات المتحدة للعراق، وذلك تحت شعار الديمقراطية. وقد أصبح واضحاً اليوم أن إحدى سمات روح العصر النيوليبرالي هي التناقض بين الشعارات المعلنة والأهداف المراد تحقيقها، كما يمكن لنا أن نلاحظ بشدة ومن دون أدنى صعوبة، تراجع كل المقولات المتفائلة التي أُطلقت في العقد الأخير من القرن الماضي، والعقد الأول من الألفية الثالثة، والتي تحدثت عن قفزات نوعية بالنسبة للأفراد والشعوب في ظل العولمة، وذلك التراجع في إطلاق الشعارات المتفائلة يكشف عن أمرين اثنين: الأول هو أن تلك الشعارات كانت ترويجية، والثاني هو تراجع التفاؤل العام بما أنجزته العولمة، وهو ما يستدعي اليوم على مستوى العالم، وبالنسبة لعالمنا العربي، نقد روح هذا العصر، والتفكّر بدروب أكثر مطابقة لاحتياجات الأفراد والمجتمعات والدول التي تقع تحت تأثير التوحش النيوليبرالي.

husammiro@gmail.com

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here