أرشيف

مظاهر شوقي في مكة

المصدر

دخلنا مكة لا أدرى متى؟ بعد العشاء أو بعد المغرب في الظلام والسلام – فما في الوسع أن يعتمد المرء في الحجاز على ألوان النهار والليل لمعرفة الوقت أو يركن إلى الشمس أو حتى إلى القمر- وقد انتهيت بعد ثلاثة أيام إلى إساءة الظن بالشمس والإيقان باختلال دورتها، وهل كان في مقدوري أن أكذب ما أجمعت عليه ساعات الحجاز الجديدة، وأن أصدق هذه الشمس القديمة وحدها، ولم تكن ساعتي على يدي فقد تركتها مع ثيابي لما لففت نفسي في مشامل الإحرام، فلا عجب إذا كان الأمر قد اختلط علي فلم أعد أميز بين النهار والليل. بعد العشاء إذاً أو بعد المغرب – كما تشاء فكله ليل – شارفنا مكة فنفخ السائق في بوقه تنبيها وزجرا للناس في الاحتشاد في طريقه، وفتحت أنا الشباك لأنظر فلم تأخذ عيني شيئا حتى رمال الطريق وصخور الجبال لفها الظلام في شملته فاضطجعت وقلت: إن لي شأنا غير شأن أصحابي، هم يدخلون مكة دخول الغريب عنها فمن حقهم أن يتطلعوا ويشرفوا وينظروا ويتأملوا – إذا وسعهم ذلك – ولكن أنا ابن هذه البلاد بل ابن مكة بالذات، فإن جدتي لأمي مكية زوجوها وهي بنت عشرين سنة رجلا فحلا من أهل المدينة، فنشزت فطلقوها منه ثم احتملوها إلى مصر بعد وفاة أبيها وخراب بيته وتجارته فتزوجت جدي، ثم إن أبي مازني مثلي، وقد انحدرت إليه هذه «المازنية» ثم إلى من بعده على نحو ما انحدرت إلينا «الآدمية»، وهذا كله مفسر في صندوق الدنيا فيرجع إليه من شاء من طلاب هذه الأنساب العريقة. وقد أسلفت القول على قبر حواء جدتي العليا، ولست أكتم القارئ أني تأثرت جدا وأن الدمع غلبني حين ألفيت نفسي – أنا الغريب البعيد عن وطني وأهلي وأصحابي وعن كل من يعني بي أو يكترث لي، واقفا أمام قبر جدتي! وصحيح أن القرابة بعيدة ولكنها على كل حال من رحمي، أو أنا – على الأصح – من رحمها ولم يخالجني ظل من الشك في أن هذا قبرها على التحقيق، فقد حن الدم في عروقي إليها وكان حنينه بالغريزة التي لا تخطئ، ولن يكذبك الدم فإنه ليس بماء، وشعرت بأن معين حبي البنوي لها قد جاش واضطربت أعمق أعماقه وطغى وفاض من مقلتي، فاستندت إلى حديد الباب وأسلت الدمع، نعم بكيت أسفا لأن جدتي لم يطل بها العمر حتى كنت أراها – فماتت قبل أن يخطر لأبوي أن يجيئا بي ببضعة آلاف من السنين، كان من السهل أن تطوى، ولم تكن الدنيا تخسر شيئا لو أنها لم تكر عليها بضعة آلاف فقط، كان يمكن اختصارها أو اختزالها على نحو ما لتتمكن الجدة والحفيد من التعانق وشفاء غلة الشوق المتبادل! ولكن على المرء أن يحتمل متاعب الحياة وأن يتجلد على صروف الأيام، ولعل ما صارت إليه جدتي المسكينة المحرومة هو الخير، ولو أنها عاشت إلى اليوم ولم تمت لما أتيحت لنا فرصة للخروج إلى الحياة وفي هذا بعض العزاء لنا.
ورأيتني أتلفت – بقلبي فقط – وأنا داخل مكة كأنما أبحث عن بني مازن أهلي وعشيرتي، واشتقت أن أعانق القبيلة كلها بكل ما فيها حتى الخيام والجمال والخيل والسيوف والرماح، وأن أضمها إلى صدري وأن أريح رأسي على صدرها وأن أذرف دموع الفرح بلقائها بعد طول النوى وبعد الشقة، وعجبت كيف لم يخرج منها أحد لاستقبالي والترحيب بين وساورتني المخاوف عليها، ولما صارت بيننا وبين مكة خطوات قال واحد:
«ألا تفتحون النوافذ؟»
قلت: ولماذا؟
قال: قد يكون هناك جند لتحيتكم فيحسن أن تبرزوا في التحية.
فقلت وأنا أرتد إلى الوراء وقد أحسست أن وجهي صار كالجمرة وإن كانت المرآة التي أمام السائق لم ترني شيئاً، لأنها بعيدة عني ومنحرفة أيضاً:
«عفوا يا سيدي. لا تخجلوا تواضعنا أرجو إلخ… اصرفوا الناس عنا…».
وكنت أريد أن أقول كلاما آخر ولكني نسيته لأن صيحة مزعجة انطلقت وصكت آذاننا على أثرها قعقعة سلاح، فخفت وسمعت أسناني تخبط وهي تصطدم، ثم ملكت نفسي وأسعفني الظلام فابتسمت لما علمت أن هذه تحية يتلقانا بها الجيش على باب مكة.
وانطلق البوق يرد الناس عن الطريق ومضى السائق اللعين يخطف بسيارته كأنه يفر بها من الموت ولا يمهلنا حتى نتأمل الناس محتشدين على الجانبين والدكاكين المضاءة بمصابيح البترول – أو الزيت فما أدري – والطريق طويل يشق مكة من بابها إلى آخر الكعبة، ومن ورائها إلى السوق وقد قطعناه بالسيارة في سبع دقائق ثم وقفت بنا أمام دار الضيافة على «المسعى بين الصفا والمروة» وأمام باب السلام فنزلنا، وأقبل علينا ناس كثيرون يسلمون علينا، فقلت هذه فرصة ولعل بعض قومي بينهم أتوا مستخفين، فملت عليهم أو على الأصح شببت إليه وتعلقت بأعناقهم، طوقتهم بذراعي وساقي – ذراعاي حول أعناقهم وساقاي حول خصورهم – وأهويت عليهم أقبلهم وألثم أفواههم وخدودهم وأنوفهم وآذانهم ورؤوسهم وكان كل منهم يتلقى مظاهر شوقي بما تستحقه وتستوجبه من السرور والجلد ثم يحطني على السلم.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here