تقارير

سياسات التقدم

المصدر

عبد الإله بلقزيز

للتقدم مداخل عدة منها يكون الولوج إليه. قد يكون المدخل فكرياً، وقد يكون علمياً أو اقتصادياً وسوى ذلك، غير أن أرْأَس مدخل إليه هو المدخل السياسي، هذا الذي بمقدار ما، يكون متقدماً، أو ثمرة للتقدم، يصبح حاملاً لمشروع التقدم، وأداة لتحقيقه في الواقع الاجتماعي وإنفاذ أحكامه في ميادين الاجتماع الوطني كافة. ما من تقدم يمكن أن يحصل في مجالات الفكر والثقافة والتنمية والعلوم والتِقانة في كنف مجال سياسي يهبط معدل تقدمه عن معدل التقدم في تلك المجالات، وإلا ما كان للتقدم فيها من مفعولية في الواقع في غيبة عن حاملها السياسي: القائم على أمرها بالرعاية والتحقيق والتطوير الدائب.

فيمَ يتجلى التقدم في المجال السياسي، وكيف يصبح حاملاً لمشروع التقدم الاجتماعي؟

للتقدم في السياسة عنوان رئيسي في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، وتجسد مادي مؤسسي: للدولة الوطنية الحديثة. والمجتمعات التي اعتدنا على تسميتها مجتمعات متقدمة هي بالذات، تلك التي قامت فيها الدولة الوطنية وأدارت شؤون اجتماعها المدني والسياسي. وليست المجتمعات هذه على نفس السوية جميعها، ولا هي كلها متقدمة اقتصادياً وعلمياً وتِقانياً (كما هي الحال في البرتغال، مثلاً، أو اليونان أو بلجيكا) ولكن مقياس تقدمها سياسي (قيام دولة وطنية فيها). ولأنها كذلك، تستطيع بدولتها الوطنية أن تتدارك ما يعتوِرُها من نقص في القدرات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية وغيرها، كما تداركته نظيرات لها في محيطها مثل إسبانيا وبلدان أخرى خارج المحيط الأوروبي.

الدولة الوطنية تجسيد للتقدم لأن مبناها على العقلانية في التنظيم والاشتغال والأداء، فهي دولة المؤسسات وتدار شؤونها على مقتضى مبدأ المؤسسية، الدولة التي تحقق فيها مبدأ الفصل بين السلطات وتمتعت فيها السلطة القضائية باستقلاليتها، وانفسحت فيها أوسع المساحات للمشاركة في الشؤون العامة، وتمتع فيها مواطنوها بحقوقهم المدنية والسياسية، وساد فيها القانون، وأصبح التداول فيها على المسؤوليات العامة متاحاً ومكفولاً للمواطنين كافة، بقوة الضمانات القانونية، وهي أيضاً، الدولة التي كفلت حق التمثيل في المؤسسات التمثيلية، وحق الرقابة على عمل المؤسسات. وفوق ذلك هي الدولة التي تنهض بأمر تحقيق برنامج تنموي يقضي على الفقر والتهميش والتفاوت الاجتماعي والمناطقي، ويوفر التعليم والعلاج والشغل والعيش الكريم للمواطنين، والمساواة بينهم في فرص الترقي الاجتماعي المتاحة.

والدولة الوطنية حامل للتقدم لأنها وحدها تمتلك أن تجعله عاماً وشاملاً قطاعات الاجتماع الوطني جميعها، فعن طريق سلطة التشريع فيها تستطيع أن تقِر البرامج الخاصة بالنهوض بهذا القطاع أو ذاك (الصناعة، الزراعة، البحث العلمي، التعليم، القطاع الثقافي) وتضع الكفاءات المناسبة لإدارتها، وعن طريق سلطتها القانونية تمتلك أن تفرض قيم المؤسسية على قطاعات الاجتماع كافة الرسمية وغير الرسمية فتفرض عليها مأسسة عملها وشفافية نظام الإنفاق فيها. إنها في هذا كله، عربة القيادة في قاطرة التقدم، حيث لا إمكان لحركة هذه من دون تلك التي تأخذها إلى وجهاتها.

على أن الطريق إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة ليس وحيد الطراز والنموذج في تاريخ تجارب الأمم؛ بل متعدد الأشكال والمسالك.

إذا كان بلوغ هدف بناء الدولة هذه، في تجارب أمم بعينها، اقتضى قطيعة عنيفة مع ما قبلها، كما في نماذج الثورات الفرنسية والروسية والصينية، فذلك لم يكن قانوناً حاكماً لغيرها من التجارب، حيث كثير منها لم يمر بطريق الثورة لتحقيق هدف إقامة الدولة الوطنية، وإنما سلك إلى ذلك سبيلاً أخرى هي الإصلاح السياسي المتدرج، الذي يراجع الأسس والقواعد ويشذبها من الكوابح والقيود، ويجدد في نظم القوانين والتشريعات، وينظم عمل المجال السياسي بالمؤسسات.. ماذا يجري في نماذج بناء الدولة الحديثة في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وهولندا واليابان وكندا، وسويسرا وإسبانيا، ومثيلات أخرى غير هذا؟

على أن الإصلاح السياسي الذي غالباً ما نُظر إليه بسلبية وظل ممجوجاً ومستقبحاً في الخطابات الرفضوية المغالية هو نفسه، في حد ذاته، ثورة: ثورة على نظام السياسة القديم وتجاوز له. ويخطئ من يعتقد أن سبيل الإصلاح سالكة دائماً، أمام من يخوضون في تحقيقه؛ بل غالباً ما تسده عليهم ممانعات ومقاومات من أعداء الإصلاح وخصومه ممن يرون في نجاحه إضراراً بمصالحهم التي كونوها وراكموها في أزمنةِ ما قبل الإصلاح.

abbelkeziz@menara.ma

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here