أرشيف

درويش حرر الموسيقى العربية

المصدر

يقول كونفوشيوس الفيلسوف الصيني الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد: «إذا أردت أن تتعرف في بلد نوع إدارته ومبلغ حظه من المدنية فاسمع موسيقاه».
وتطبيقًا لما تشف عنه هذه الحكمة نقول، إن موسيقى سيد درويش كانت صورة صادقة لما يجيش في نفوس الملايين وقتئذ من توثب وطموح إلى التخلص من القيود والأغلال التي كانت تكبل البلاد وتتخلف بها في كل ناحية من نواحيها عن اللحاق بركب الأمم وتقدمها، وكانت موسيقاه استرواحًا للأمل الذي يستشرف إليه الجميع وتخفق به حبات القلوب، تطلعًا إلى مشرق نور الحرية في وطن لا يخيم عليه ظلام الاستعمار ولا ظلم الاحتكار.
لقد نطقت ألحانه بمرير الشكوى من استغلال الأجانب لموارد البلاد وثروتها، فندد بشركات مياه القاهرة والترام وبجميع الأجانب المستغلين الذين كانوا مصدر حرمان لأبناء الوطن، بقدر ما كانوا معينًا فياضًا لثراء أنفسهم وبلادهم.
كما عزف بموسيقاه على وتر الغيرة الوطنية والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والدفع العسكري وندد بأولاد الذوات المتعطلين، وارتفع صوته بشكوى العمال والصناع، وما تلقاه طوائفهم على اختلاف أنواعها من عنت وقسوة وضمن ذلك كله ألحانا كانت أصدق مرآة لما تجيش به النفوس وتنطوي عليه أماني الشعب وآماله.
نشأ الفنان في بيئة شعبية ودرج واستكمل نموه في بيئات وطبقات شعبية، انفعل بها واستوحاها، فأوحت إليه بموسيقاه العربية الصميمة التي لا تعرف لكنة ولا تميل انحرافًا.
ولم يعرف أضواء القصور ولا الزلفى إلى الملوك والأمراء وأصحاب النفوذ، ولم يخضع في فنه ولا في شخصيته لرضى عظيم أو غضبه، فبقي وهو ابن الشعب ينتج للشعب ويترجم عن مشاعره.
ولقد عودنا الفنانون في الكثير من الحالات أن يكون نبوغ أحدهم في ناحية معينة، وأن ألم ببقية النواحي الأخرى من فنه، فهذا متخصص في الأناشيد والأهازيج الطنية، وذاك في الألحان العاطفية، وثالث في المسرحيات، إلى غير ذلك من مختلف ضروب التفوق الفني. ثم لا تلبث أن يأخذك العجب حين تجتمع هذه كله لرجل واحد تفرد بالتفوق الكامل في كل ما وجه إليه عبقريته، وهو سيد درويش فهو سيد من لحن الموشح القديم والدور التقليدي والنشيدي، والأهزوجة الخفيفة والمسرحية الغنائية، وما حوته من مختلف الاستعراضات والألوان الشعبية.
لقد أسعفته موهبته في كل ناحية من نواحي التلحين فإن اتجه إلى الحماسيات خلت موسيقاه نارًا تتأجج، وإذا اتجه صوب العاطفة خلتها تذوب رقة ولينا في غير خضوع ولا توجع ولا تميع ولا تخنث ولا ضعف، ودون أن تفقد فيها الرجولة قوتها ولا الشخصية اتزانها، وإذا عالج الاجتماعيات خلته محدثًا لبقًا، وإذا رغبت في السخرية خلته مصورًا كاريكاتوريا ماهرًا، ويصعد في ألحان المسرحيات الجدية إلى أعلى قمة النجاح حتى يثيرك ويبكيك، ثم هو في المسرحيات الهزلية يملأ نفسك بهجة وانشراحًا.
لقد حرر الموسيقى العربية من التزام الصيغ القديمة الموروثة والتقيد بانتقالات تقليدية، يعد أهم ما يعني به الملحن ويحرص عليه فيها هو القدرة على الانتقال من مقام إلى مقام في «حركة» فنية يطرب لها المستمع وإن أهدر في سبيل ذلك المعاني والكلمات، فكان سيد درويش هو ذلك الفنان الثائر الذي أدرك أن الموسيقى تصوير وتعبير، وليست مجرد تطريب مليء بالأنات والآهات، وقد جدد في القديم وابتكر في الجديد، فلم يكن الرجعي الجامد ولا الجاحد بموسيقانا القومية.
ولما كان صاحب رسالة فقد كان طبيعيًا أن يتعرض لما يتعرض له أمثال الرواد من خصومة وتجن ومعارضة، وكان وهو المؤمن برسالته، القوي بعبقريته، الواثق من صواب اتجاهه، سار قدما إلى غايته السامية وهدفه الرفيع، غير مبال بصيحات أولئك المتخلفين الجامدين الذين يتعلقون بإذيال كل تقدمي متوثب لعرقلة خطاه، وما زال يواصل كفاحه حتى أدرك الغاية وبلغ الهدف في أقصر وقت.
كان سيد درويش نابغًا عصاميًا شق طريقه بين الأشواك، واستطاع أن يجتاز المخاطر والعقبات وأحرز في الفن غاية لم يبلغها سواه، دون أن يتخرج من مدرسة محدودة الجدران، بل كانت مدرسته واسعة الأفق بعيدة المدى، تلك هي مدرسة الحياة والتجربة، ثم هو فوق ذلك الذكي الموهوب صاحب العبقرية الذي استطاع أن يفيد من جميع ظروف حياته حتى السيئ منها، وأن يغتنم الفرصة حين تواتيه فيقتبس من كل ضوء يلتقي به في عالم الفن، حتى نضج وكملت له شخصيته الفنية. على أنه لم يقنع بهذا القسط من الفن، وقد سمع أصداءه تتردد على أفواه الشعب في كل مكان، ولا بهذا النجاح وقد وفر له من المال والشهرة ما لو تيسر جزء منه لسواه لقنع به راضيا مغتبطا، ولم يرض بكل هذا النصيب بل رغب في الحصول على المزيد لا من المال ولا من الشهرة، ولكن من العلم والفن، فاعتزم الرحلة إلى إيطاليا ليتزود من معينها الموسيقي الفياض، ولتتم له تلك الدراسات المتخصصة، فاكتسب خبرة فنية وقدرة على المقارنة والموازنة، ولكن القدر كان أسبق إليه من هذه الآمال فوافته منيته قبل إنجاز رحلته.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here