ثقافة

حسين علي حسين: نرجسيتنا عالية ولا يوجد مبدع غلبان

المصدر

استشعرتُ مهابةً، حال التفكير في محاورة القاص حسين علي حسين، إذ لطالما تفاديتُ الجلوس بالقُرب منه في مناسبات ثقافية عدة، دون نفور، فوجهه الذي يبتسم لك يُداري شجىً غائراً، وملامحه العابسة تُواري ضحكة ساخرة، فكأنه أحد أبطال مستعمرة العقاب لكافكا، لا يدّعي، ولا يتظاهر، ورغم بساطة حضوره، إلا أن أجيالاً عدة تعرف له مكانته وقدره ومقامه، وسيرته قائمة على الإخلاص لكل عمل أو مهمة، وإن سكنه الخيال، فهو متصالح مع الواقع، تخيّلته عندما بعثتُ إليه المحاور في وضع مزاجي غير جيّد، كونه لم يردّ على استلامها، وخشيتُ أن تكون الأسئلة قليلة الذوق أو عديمة اللياقة، وأثناء حديث لائم للنفس، جاءت الردود مع الصور بسخاء أكبر مما توقعتُ، وكانت هذه الحصيلة..

• هل دافع الكتابة وجع؟

•• دوافع الكتابة كثيرة؛ أبرزها الوجع والشغف والميل إلى الإضافة، والكاتب رغم ذلك عنده نرجسيه عالية، قد يخفيها وقد يحرص على بسطها، لكنه في النهاية يعاني من احتقان ربما لا يزول إلا بتغريده على الورق، ما يمكن أن يجر عليه المتاعب، أو يجر له الذيوع والمجد. ولا يوجد مبدع متواضع أو غلبان، حتى إن بدا عليه ذلك!

• لماذا اعتنقت كتابة القصة القصيرة تحديداً؟

•• كل أبناء جيل السبعينات بدأوا بكتابة القصة القصيرة، إذ كانت رائجة في ذلك الوقت، عربياً ومحلياً، ومن بقي من أبناء هذا الجيل كتب بعض منهم الرواية. وآخر مجموعة قصصية أصدرتها كانت مجموعة (العقد) وقبلها وبعدها أصدرت أربع روايات، وصلت إحداها للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد آل نهيان، وهي رواية «وجوه الحوش» التي صدرت عن المركز الثقافي للكتاب، وقبلها أصدرت: «حافة اليمامة» صدرت عن دار المفردات، و«السويدي» صدرت عن دار الجمل.

• هل عانيت من تمييز ما في بداية حياتك؟

•• التمييز بين الأفراد والجماعات وارد في أي مكان، خصوصاً إذا كنت في بلد كبير، تتعدد فيه الأعراق والمذاهب والمناطق والاتجاهات الفكرية أو العلمية أو الثقافية، لكنني أحمد الله وأشكره، أنه تمييز أفراد أو جماعات أو تيارات.

• أين أنت من إصدار كل أعمالك القصصية في مجلد أو مجلدات عدة؟

•• المشكلة أن دور النشر لم تعد تتبنى إصدار المجموعات القصصية، والأندية الأدبية تكاد تكون متوقفة، فلا يبقى أمام القاص إلا القيام بإصدارها على نفقته الشخصية، لكن الرغبة واردة رغم تواضع الإمكانات.

• ما الذي تشعر بفقده اليوم فنيّاً مما يسمى الزمن الجميل؟•• لا أؤمن بما يقال عن الزمن الجميل أو غير الجميل، مررت في بداية حياتي بكوارث مثلما مررت بأيام جميلة، لكن جيلي تلقى دعماً دون حدود من كتاب سبقوه، ومن دور نشر عدة، فنشرت لي مجموعة قصصية في هيئة الكتاب المصرية، وكتب عن قصصي كبار النقاد في مصر وسوريا والعراق وتونس وفلسطين ولبنان والسودان، أين نحن الآن من نقاد، ومتابعي تلك الأيام، حتى الصداقة في تلك الأيام كانت فيها مواقف جميلة مثلما فيها خذلان ونكران، لكن تظل المسألة نسبيّة، ويظل المبدع يبدع طالما وجد ما يقوله أو يبدعه، وطالما وجد من يعطيه ما يستحق من الرعاية، والاهتمام، بنشر إنتاجه ومكافأته على مجهوداته أو إبداعاته مادياً ومعنوياً.

• أين ومتى كانت الومضة الأولى لوجهك الكتابي؟

•• أول قصة قصيرة نشرت لي كانت في نهاية عام 1969م، وتم نشرها في ملحق «دنيا الأدب»؛ الذي كان يشرف عليه سباعي أحمد عثمان، رحمه الله، بجريدة المدينة، واستمررت أنشر في هذا الملحق، ومن مزايا المشرف على الملحق، وهو كاتب مبدع، رعايته واهتمامه بكافة الأصوات الجديدة في القصة والشعر والدراسات، وأكاد أقول إن أغلب كتاب القصة الحديثة أو جيل السبعينات انطلقوا من هذا الملحق، رحم الله سباعي عثمان، قدم لنا الكثير من الدعم والرعاية، ويا ليت تتولى جهة ثقافية إصدار كتبه، وإقامة ندوة أو ندوات، عن دوره في حياتنا الثقافية.

• يبدو أن العلاقة بالسرد كانت مهنية، أكثر من كونها وجدانية، كون روحك روحاً شاعرة؟

•• تعلمت أن الإبداع ينطلق أو يتألق عبر عوامل عدة؛ منها الموهبة والثقافة العالية والجدية. كافة المبدعين الكبار كانوا يخصصون ساعات طويلة للقراءة والكتابة، خصوصاً إذا كانوا من كتاب القصة والرواية. والشعر ظروفه وآلياته غير. علماً أنني لم أكتب أو أحاول كتابة الشعر، وإن كنت أقرأ بين وقت وآخر لشعراء من أبرزهم العباس بن الأحنف، والمتنبي، وأبو نواس، والسياب، وأمل دنقل، ومحمود درويش.

• لمن تعزو الفضل في فتح آفاق القراءة والكتابة أمامك؟

•• في هذه الحالة أنا نبت شيطاني! فلم يوجهني أحد إلى القراءة اوالكتابة، وحالة أسرتي المادية، بمقاييس تلك الأيام، كانت جيدة، ما مكنني من الاهتداء إلى هوايات عدة: مراسلة الجنسين، جمع الصور والطوابع، قراءة مجلات الأطفال، هذه الهوايات قادتني شيئاً فشيئاً إلى قراءة الروايات، فقرأت وأنا في المرحلة الإعدادية لكُتّاب من العرب والعجم، ومن أبرز أولئك الكتاب: يوسف إدريس ونجيب محفوظ، وغادة السمان، وليلى بعلبكي، وكامو وسارتر، وكولن ولسون، وشتاينبك، وتوماس مان، وكافكا. وأبرز ما شدني في تلك المرحلة رواية «الغريب» للبير كامو و«المسخ» لفرانز كافكا. وحتى لا أنسى، ويعود الفضل لقراءتي روايات البير كامو، ومن ساروا في ركابه، أو زاملوه لأخي الأكبر حسن، رحمه الله، فهو من أرشدني إلى هؤلاء، إذ كان مكث في فرنسا أعواماً لدراسة الهندسة، وكان يقرأ بحكم إقامته هناك القصة والرواية من باب التسلية، وجاءت إرشاداته أو تنويهاته، عقب كتابتي للقصة بعامين أو ثلاثة.

• هل كان للصحوة دور في إبراز وجه الحداثة؟

•• الحداثة في الشعر والقصة بدأت قبل الصحوة، بأعوام قليلة، وعند بزوغ الصحوة بدأت حرب ضروس بين أنصار الطرفين، ولم يتردد الصحويون في ربط الحداثة باليهودية والصليبية والعلمانية، وانضوي تحت جلباب الصحوة قطاع كبير متعدد الطبقات والتوجهات، ومن هؤلاء فئات شرسة كانت مستعدة من أجل نصرة ما ترى أو تعتقد، للقتل والحرق والتدمير، وللأسف تماهى البعض مع هذا التيار، فقاموا بتطفيش من يرتابون في أمره، الصحوة لم تكن صحوة، لكنها كانت كتمة!

• ماذا أضافت لك البدايات الصحفية؟

•• ليست بدايات وإنما مهنة، كوني عملت لمدة طويلة في مجلة اليمامة، وجريدتي الرياض والمدينة، جالباً للأخبار والمقابلات، ومشرفاً على بعض الأقسام الصحفية، لكن عملي على الدوام كان صحفياً في الشؤون المحلية والعربية، وخلال هذه المدة، كتبت زوايا صحفية، في المدينة، واليوم، واليمامة، والشرق الأوسط، والرياض، وخلال عملي الصحفي، لم أعمل بتاتاً في الأقسام الثقافية أو الأدبية، وأفادني العمل الصحفي كثيراً في كتابة القصة والرواية والمقالة.

• متى نقرأ سيرتك الثقافية؟

•• عندي كتاب عن حياتي في المدينة المنورة؛ هذا الكتاب يتحدث عن العادات والتقاليد والمناسبات والألعاب والمكتبات، وجزء كبير من هذا الكتاب يتحدث عن الحياة الصحفية والثقافية، محتويات الكتاب كلها من وجهة نظر من عايش واندمج وتعلم في بيئة المدينة، والرياض، وجدة، وغيرها من المدن الصغيرة والكبيرة، داخل وخارج المملكة.

• لمن تقرأ من التجارب القصصية الأحدث؟

•• أقرأ للجميع خصوصاً في القصة القصيرة والرواية والدراسات الاجتماعية، للكتاب السعوديين والعرب وغير العرب من جميع المستويات، وتستوقفني منذ شهور تجارب روائية من الهند وتركيا وإيران وعدد من الدول الأفريقية.

• ما انطباعك عن النقد الموازي لتجاربكم؟ وهل أنصفها؟

•• من عاداتي غير الحميدة عدم إرسال ما أُصدره من مؤلفات جديدة إلى أحد إلا بطلب مباشر، وهذا ليس غروراً أو تكبراً ولكنه إيمان بقاعدة: ما يأتي دون طلب لا يعول عليه، وفوق ذلك أنا قليل الاختلاط أو العلاقات بالنقاد، ومع هذه العادة التي لازمتني، أتاني رزق محمود من نقاد كبار لهم مني دائماً الشكر والامتنان، ويبقى القول إن كل من صادف وجودهم من الكتاب الذين يوصفون بالحداثيين من كتاب القصة، تلك الأيام كان حظهم قليلاً، ولم يكن ليقارن بالشعراء، والآن انقلب الوضع، توارى الشعراء وبرز كتاب القصة والرواية، وفي هؤلاء مجموعة أبرز مواهبهم تسويق ما يقولون ويكتبون بطريقة لا يحسدون عليها، وأصبح ينطبق على هذه الفئة المثل الشعبي: كل في سوقه يبيع خروقه!

• هل تؤيد مقولة الثقافة مظلومة؟

•• ما أكثر الذين يخطبون ود الثقافة، وهو ود مكلف!

• ما شروط نجاح الملاحق الثقافية في الصحف؟

•• الصحف السيارة بصورة عامة، ليست مكاناً مناسباً لنشر الدراسات والمقابلات الإنشائية، مهمة الأقسام الثقافية في الصحف نشر الأخبار والمقابلات والتقارير والتعليقات، وهذه مهمات كبيرة تحتاج إلى من يقرأ ويتابع، وعندنا للأسف ضعف في هذا المجال؛ لأن الصحف بقدر ما تبخل على خدمة الشأن الثقافي، تكون كريمة في خدمة الشأن الرياضي، وبالذات ما يختص بكرة القدم.

• ماذا أضافت لك وسائل التواصل الاجتماعي؟

•• أخذت المكان الذي كانت تحتله الصحف الورقية. والمشكلة أن الصحف الورقية استسلمت ولم نعد نراها حتى في المنافذ التي كانت تؤمنها، سبحان الله، كل وقت ما يستحي من وقته!

• أين تجد نفسك؟

•• في القراءة والكتابة وارتياد الأسواق والمقاهي والنميمة الحميدة، والأخيرة اكتسبتها من عملي الصحفي.

• لمن تقول استمر، فلا يزال لديك الكثير؟

•• لنفسي، مع أن العظم وهن والنظر ضعف، لكنه الأمل، فهناك الكثير من الروايات والقصص والمقالات التي كتبتها على مدى نصف قرن، كل هذه الأعمال تنتظر الانتهاء منها لتخرج!

• لمن تقول توقف فما أنجزته يكفي؟

•• من عاداتي السيئة أو الحميدة قراءة أي كتاب اختاره من الجلدة للجلدة، وهذا الكتاب غالباً ما يضعني أمام قرار واحد، الاستمرار أو الامتناع عن قراءة المزيد من مؤلفات الكاتب الذي أنهيت قراءة أحد كتبه، لكنني لن أقدم النصيحة التي جاءت في السؤال لإيماني باختلاف الأذواق، وبأن أضعف الكتاب قد يرى نفسه أفضلهم، الزمن وحده يتكفل بالفرز!

• هل نحن في حاجة إلى حداثة جديدة؟

•• الفرق بين البحر والنهر الحركة، وأنا من أنصار البحر، الذي لا يستقر موجه!

• لماذا خفت وهج الحراك الثقافي؟

•• لم يخفت، لكنه انتقل إلى الوسائط الرقمية. كل يوم نرى جديداً من الطروحات الفكرية والعلمية والثقافية. كل يوم نرى روايات جديدة. الموت طال الشعر والقصة القصيرة والصحف الورقية!

• من هو رمز القصة في المملكة الذي مهد الطريق لجيلكم؟

•• جيلي فيهم من كتب القصة القصيرة والشعر والنقد والمسرح بنفس جديد وربما غير مألوف، أما الجيل الذي خرج قبل جيلي، فكان من أبرزهم عبدالله جفري، إبراهيم الناصر، عزيز ضياء، محمد عالم الأفغاني، خليل الفزيع. ومن أبرز مزايا جيلي حرقه لكافة المراحل التي سبقته، إذ كان جيلاً غاضباً، متمرداً، كاسراً لكافة المراحل والقوالب الكلاسيكية والإنشائية، والرومانسية الفجة. كنا تلاميذ لجيل الغضب الذي تسيد الساحة الثقافية، مثل كولن ولسون، كافكا، جويس، كامو، ساغان، ومن العرب، زكريا تامر، غالب هلسا، ليلى بعلبكي، جمال الغيطاني، عبدالرحمن الربيعي، الطاهر وطار، الطيب صالح. كان من أبناء جيلي: سليمان سندي، عبدالله السالمي، عبدالله باخشوين، أنور عبدالمجيد، فهد الخليوي.

• لمن تنبأت من الأسماء الحديثة وصدقت نبوءتك؟

•• مر على القصة القصيرة في المملكة العشرات من الكتاب، لكن الزمن كان يطويهم سريعاً، ولم يبقَ على السطح إلا القلة، وأجد نفسي في حل من ذكر الأسماء، فالذين لمعوا والذين أخفقوا، أحتفظ لهم على الدوام بمحبة وتقدير دائمين.

• هل طغى تحديث المجتمع على حداثة الفن؟

•• لا يوجد في الفن حديث أو قديم، وإنما فن أو لا فن، نحن ما زلنا إلى الآن نقرأ شكسبير، وتوماس مان، وتشيكوف وغوغول، ودستوفيسكي وتوماس هاردي مثلما نقرأ كافكا والبير كامو. المجتمع السعودي متقدم في كافة المجالات العلمية والعمرانية والثقافية وهو مدني بامتياز وستعرف مستواه الثقافي في إقباله منقطع النظير على كافة المنجزات العصرية: السينما، المسرح، الكتب، الرحلات، الحفلات.

• من تتمنى من المثقفين الراحلين لو كان بيننا اليوم؟

•• من يذهب لا يعود مهما كانت قيمته، هذه هي الحقيقة. يبقى لنا حيال من رحلوا إحياء إرثهم بالنشر والدرس!

• ما القاسم المشترك بينك وبين محمد الثبيتي وفهد الخليوي وعبدالله بامحرز؟

•• أنعم وأكرم بهم، رحم الله من مات، والصحة وطول البقاء لمن هم على قيد الحياة. كل واحد من كتاب ذلك الجيل له خطه ومستواه!

• ما أصعب المراحل التي مرت على الكاتب حسين علي حسين؟

•• لست بدعاً بين الخلق، فقد أكلت الكثير من اللقم، منها الطيب، ومنها الحار، ومنها التي في بطنها شبهة السم، ومنها التي غصصت وأنا أحاول بلعها، لكن في نهاية الأمر لا يسعني إلا القول: هذا أنا، وهذا اسمي (حسين علي حسين)، أينما حركته أو قلبته أو تمليت فيه، ربما تجد فيه ما تريد وما لا تريد، وربما تجد فيه خبرات ومنجزات وظيفية وعلمية وأدبية، امتدت لأكثر من نصف قرن، وهو حال لا تبديل له.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here