تقارير

بيت يسكنني

المصدر

رائد برقاوي

عندما يجلس معظمنا ليدوّنوا ذكرياتهم عن أعمالهم، ربما يتحدث بعضهم عن آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم في بداياتهم، وما نجحوا في تحقيقه وما يتطلعون إلى إنجازه في المستقبل، وربما يتطرق آخرون إلى العقبات التي واجهتهم والتحديات التي استطاعوا بالإرادة والعزيمة أن يتجاوزوها، وسيتحدث فريق ثالث عن عدم نجاحه، وأن «الحظ» لم يكن معه وبقي مراوحاً مكانه، وسيتناول فريق رابع رحلته في تطوير مهاراته، أو يسرد خبرته التي تعلمها بالتراكم من هذا العمل، لتستفيد منها الأجيال الجديدة.

اسمحوا لي في هذه الزاوية الصغيرة في عدد كلماتها، العزيزة على قلبي، أن أقول إن ذكرياتي في دار «الخليج» أو تجربتي في هذه الصحيفة الحبيبة، تتجاوز كل ذلك إلى ما هو أعمق.

«الخليج» هي باختصار بيتي، ليست منزلي الذي أستطيع تغييره، وقد تنقلت بين أكثر من منزل بالفعل طوال حياتي، وليست أيضاً مجرد مكان عمل وظيفي عادي أو روتيني، أو خطوة في الحياة العملية يسعى بها الإنسان إلى خطوة أخرى أو عمل ثانٍ، فأنا لم أعمل طوال ما يزيد على ثلاثة عقود في مؤسسة أخرى، ولم أفكر في الانتقال منها.

«الخليج» ليست مجرد صحيفة أو وسيلة إعلام وفكر أو أداة للتنوير؛ هي كل ذلك معاً، لكنها كذلك جمعت بين التعليم والأخلاق والعلاقات الإنسانية الرائعة التي تربط بين قلوب البشر، بإمكان الكلمات أن تقول باختصار مثلاً: «الخليج مدرسة»، لكن هذا العمر الطويل في الصحيفة يدفعني لكي أحدثكم عن معنى هذا القول الذي يختزن عشرات القيم بداخله.

التحقت بالعمل في جريدة الخليج في الأول من ديسمبر 1984، ومنذ اللحظة الأولى لم أشعر بأي معاناة في الانطلاق، حيث احتضنتني وبعد سنوات قليلة تعلمت قواعد المهنة وأسرار تقنياتها، لم أكن عند لحظة التوظيف إلا مجرد شاب في مقتبل العمر (22 عاماً)، لا يعرف من الصحافة إلا بضعة دروس نظرية تلقاها في الجامعة، ونزلت إلى الميدان ولم أكتسب مهارات صحفية وحسب، لكن خبرات إنسانية أيضاً.

انفتح أمامي عالم جديد مملوء بالأمل والتفاؤل، وبدأت شخصيتي في التبلور، ومع الاجتهاد اكتشفت الدرس الأول في جريدة الخليج: إنك تستطيع التعلم من الجميع، فالكل عندهم إضافة وما عليك إلا التقاطها، والباب مفتوح ببساطة ومن دون أي تعقيدات للترقي الوظيفي، حيث لا شروط إلا الموهبة والعمل الجاد والتحلي بالأخلاق.

في عام 1994 توليت رئاسة القسم الاقتصادي، حيث قيادة تريم عمران؛ ذلك الأب الذي كنت أشعر في حضرته بحنان نادر ينقله إلى كل من يعمل معه، كان يعتبر الصحيفة أسرته، وهو درب سار عليه من بعده المرحوم الدكتور عبدالله عمران، الذي شاءت الظروف أن أقترب منه، وأن أترقى في عهده أكثر من مرة، فيما ذاكرتي تتجه إلى أحاديثنا اليومية في مختلف شؤون المهنة والحياة، والتي تطورت إلى صداقة أبوية، حيث نصائحه وتشجيعه الدائم لي، وثقافته الموسوعية وفراسته في معرفة البشر ومعادنهم، وكلما تذكرت أن آخر ورقة وقع عليها «أبو خالد» هي ترقيتي إلى منصب رئيس التحرير التنفيذي يفيض قلبي بالحزن والأسى.

وعلى خطى تريم وعبدالله عمران، يسير خالد عمران بابتسامته المرحبة، وبتواضعه الآسر لكل من يتعامل معه، وبدماثة أخلاقه، وهو ليس رئيس مجلس إدارة دار الخليج وحسب؛ لكنه أخ أفتخ وأعتز بالعمل معه، خاصة في ظل مرحلة جديدة تتجه فيها الصحافة في العالم كله إلى تقنيات فائقة الحداثة.

على مدار تلك العقود كانت «مدرسة الخليج»، جزءاً أساسياً من الوطن؛ تلك الأرض الطيبة التي عبرت بصدق عن إنجازاتها وطموحاتها، وزرعت في قلوبنا جميعاً معنى حب الإمارات العصي على الوصف، وعلمتنا الأمانة والموضوعية والتوازن في تناول ومعالجة مختلف القضايا.

في قاعات المؤسسة وغرفها كان الانتماء العروبي حاضراً دائماً وبقوة.. في النقاشات والرؤى والأفكار، ولو أتيح للجدران أن تتحدث لأخبرتكم بكلمتين اثنتين كانتا على الدوام عقل وقلب الخليج: الإمارات والعرب، هما جناحان تُحلق بهما الجريدة كل صباح لتحط بواسطتهما في وجدان كل عاشق للوطن والأمة، تخاطبه بهدوء وموضوعية، تحاور عقله قبل وجدانه.

دروس «الخليج» لا نهاية لها، ومن العسير تلخيصها، فالحديث عن المهنية والأفكار والقيم الأخلاقية والروح العائلية التي تسود المكان، لا تفي الجريدة حقها، فهناك أجيال إماراتية وعربية تعلمت الكثير من «الخليج»، لتكتمل العلاقة الصحية بين جميع أطراف العملية الإعلامية: الرسالة والمرسل والمتلقي. ولقد نجحت برؤية مؤسسيها والجهد الموصول، الجاد والدؤوب، من إدارتها الحالية في التوازن بين هذه الأطراف بصورة تثير الإعجاب.

تعلمت الكثير في الخليج، وأثّرت بقوة في جوانب عدة من شخصيتي، احتضنتني بصدق فكانت تجربة حياة ثرية ومدهشة.. أعطتني الكثير والكثير وبادلتها العطاء بالعطاء.. «الخليج» باختصار ليست بيتي الذي أسكنه، لكنها بيت يسكنني.

barqawi04@hotmail.com

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here