تقارير

أهل الحتة

المصدر

نور المحمود

لم نعد نحتاج إلى تذكرة سفر وطائرة وحقائب كي نحزم أمتعتنا ونرحل إلى الغربة، فلقد أصبحنا غرباء بما فيه الكفاية، نمارس غربتنا داخل مجتمعاتنا وأحيائنا؛ بل وداخل المباني التي نسكنها.
لا تقل إن أيام الأجداد كانت تعبق بروائح البساطة والألفة بين الناس، فطفولتنا نحن أيضاً، تفتحت على تلك النفوس الطيبة وتنشقت عبير الوفاء والود والتواصل المباشر والعفوي بين الناس. لا تعد بالذاكرة إلى الماضي البعيد؛ بل ارجع خطوتين إلى الوراء فقط، كي تستعيد مشهد الأبواب المفتوحة والحوارات الموصولة بين الجيران.
أين نحن من تلك الصور الجميلة؟ أين نحن الآن من مفهوم الجيرة الحقيقية؟ يومها كانوا يقولون لنا «الجار قبل الدار»؛ أي أنه عليك حسن اختيار جارك قبل أن تهتم بتفاصيل البيت الذي ستسكنه، والبعض يفسرها بحسن معاملة جارك فتوليه أهمية كبرى. أياً كان المعنى الحقيقي، فتلك العبارات والمقولات والحكم لم تعد موجودة، وكأنها منتهية الصلاحية ولا ينفع استخدامها اليوم.
كل قواميس الحياة في تلك المرحلة كانت تتضمن أمثلة أو تأتي على ذكر الجيران والجيرة بشكل أو بآخر، انظر إلى أفلام زمان، وأغاني زمان، وقصص زمان، لا بد أن تجد فيها جارك إما بطلاً أو شريكاً في البطولة أو صديقاً للبطل، أو على أبعد تقدير من الكومبارس المكمل للمشهد، والمدافع أو المناصر لصاحب الحق.
«أولاد الحتة»، وأبناء الحارة.. كم من روايات تناولها الأدباء عن تلك العلاقة المميزة بين أولاد الحارة الواحدة؟ كم من قصص وجدنا أنفسنا وأبناء جيراننا معنا فيها؟ ألم تعد «الحارة» حارة مثل زمان؟ أم إن الجيرة هي التي فقدت جوهر معناها وسبب وجودها الحقيقي؟
مؤكد أن هناك الطيب والشرير في حارة زمان وأولاد حارة زمان، وهناك ذكريات حلوة وأخرى مرة، لكن جوهر معنى الجيرة كان هو الأساس والعرف السائد والقانون الفطري الذي يمشي وفقه كل الناس، ويطبقونه بشكل تلقائي. كانت الأخلاق هي الفيصل والمعيار، الروابط التي تنشأ بين كل أهل الحي، مقدسة وكأنها أحد البنود الأساسية المنصوص عليها في عقد الإيجار أو التملّك.
الجار لم يعد للجار، والأبواب كلها تجلب الريح؛ لذا تسدها وتستريح؛ بالكاد تلقي التحية على من تصادفه أمامك، وبالكاد تحفظ وجوه من يسكنون معك في نفس المبنى ونفس الطابق، فما بالك بأهل «الحتة». سلام على تلك الأيام وعلى روح الجيرة التي يبدو أنها انتقلت إلى الرفيق الأعلى.

noorlmahmoud17@gmail.com

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here