أرشيف

ما خفي في الحرب الأذرية الأرمنية

المصدر

نزاع تاريخي، اشتعل فتيله، أو "أُعيد" إشعاله. قد يفسر أحد ذلك على أنه نزاع مر في حالة من البرود، وتوقع الكثير أن رائحة البارود لن تعود مجدداً. مخطئ من يتصور أو تصور ذلك. فالحرب الباردة بينهما لم تنطفئ. حرب دبلوماسية وسياسية واقتصادية، بل وحتى حرب نوايا من دون صوت.
الجديد أن صوت الأسلحة والمدفعية وهدير الطائرات بات يملأ الأسماع. لأن فتنة عمل أطراف معروفون على إشعالها حضرت، وغابت مقابلها الحكمة.
اشتبكت عقد السياسة بالاقتصاد، والمصالح بالمحسوبيات والنفوذ.
كان لجمهورية ولاية الفقية، ورفقاء الدرب في أنقرة الدور الكبير في دفع الصراع الدام إلى الواجهة. على الرغم من تعقيد المشهدين في أرمينيا "المسيحية"، وأذربيجان "ذات الغالبية الشيعية"، في الأمر تقاطعات سأسهب في شرح أهمها، لكن قبل ذلك قد يرى البعض أني متحامل على إيران، وتركيا، هذا غير صحيح. نحن أمام دولتين بسياسة متطرفة مشكوفة. تحكمهما إدارتان يعرف عنهما نزعة التوسع والتمدد ودفع الصراعات ونشر الاقتتال لأسباب قد تكون مصلحية في نواحٍ معينة، لكن الأهم أن الآيديولوجيا والراديكالية الدينية تتحكم بمفاصل السياسة في "إيران وتركيا". تلك قواعد تعتمدها منهجية التمدد المعتمدة في طهران وأنقرة، دون مراعاة أدنى مقاييس العلاقات الدبلوماسية والسياسية، بل وحتى الإنسانية، بصرف النظر عن الكذب باسم حقوق الشعوب والإنسان. الصراع الأرميني الأذربيجاني صراع "ديني" أزلي، وذو طابع سياسي جغرافي، محفوف بالاقتصاد والنفط والغاز، لكن الأهم أنه مدفوع من أطراف مستفيدة، أو تسعى للانتفاع من ملف هذا الصراع.
فلا ضبط النفس بات مجديا، باعتبار أن لغة الحرب حتى وإن كانت كارثية، أصبحت اللغة المتسيدة التي لا بد منها. والوساطات من أي طرف دولي لن تؤدي إلى أن تضع الحرب أوزارها، ما لم يتم تحييد الطرفين، الإيراني والتركي. للعلم فالبلدان المقتتلان كانا ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، روسيا حالياً. ومن هذا الجانب يمكن فهم أي وساطة روسية ساعية إلى الهدوء. لكن ما يبدو أن الحرب الدائرة لن تقف عند حد قريب، كونها كانت نتيجة إذكاء فتنة أكبر من كل شيء، جاءت بعد معارك خلف الأبواب المغلقة أقرب إلى كسر العظم. ولفهم حالة الحرب تلك، يجب استيعاب أن ملف الدولتين – أرمينيا وأذربيجان – معقد في مجمل النواحي. سياسياً واقتصادياً واجتماعيا، بل وحتى ديموغرافياً. للجميع أن يتخيل أن أرمينيا ذات الغالبية المسيحية تلقى دعماً مطلقاً من الجمهورية الإيرانية، على حساب أذربيحان ذات الغالبية الشيعية. لكن لماذا؟ الجواب: نكايةً بأذربيجان وحكومتها التي لا تعترف بالأديان، وتعتبر ذات نظام علماني صرف. والسبب الأهم الذي خلق حالة من العداء بين إيران وأذربيجان، هو كسر الآذريون تابو "الولي الفقية الجامع للشيعة في العالم"، ونسف الحلم والأمل الإيراني الكبير، وبذلك تكون أذربيجان الدولة الأولى ذات الغالبية الشيعية التي لا تعترف بولاية الفقية وبأي نظام ديني، ما قاد طهران لاحتلال أراضي أذربيجانية منذ وقت بعيد، الأمر الذي جعل سقف العداء أكبر.
من هذا المنطلق أستطيع التأكيد أن من يتصور أن الهم الأول لإيران يتمحور حول الطائفة الشيعية هو واهم. يهم ولاية الفقية استكبارها على الشيعة والاستفادة منهم، وليس الطائفة بحد ذاتها. بدليل حربها من أجل شيعة العراق وسوريا ولبنان، وحتى باكستان، في موازاة مقاتلتها أبناء الطائفة في موقع آخر من العالم كأذربيجان على سبيل الاستشهاد لا الحصر.
لدى ولاية الفقية عنوانها ليس الطائفة، بل "من نستفيد منهم" باسم علي، وفاطمة، والحسن والحسين. وغير بعيد عن ذلك، تقف الجمهورية التركية مع أذربيجان التي تعتمد اللغة التركية لغةً ثانية في البلاد. والسؤال لماذا تساند تركيا أذربيجان؟ أولاً لأنها ضد الأرمن الذين لا يزال التاريخ التركي ملطخا بدمائهم، نظير وقوف مسيحيي أرمينيا ضد الدولة العثمانية، بدعم مما كان يُعرف بـ"الاتحاد السوفييتي" ونتج عن ذلك ما يسمى حتى الآن "الإبادة الجماعية للأرمن"، التي حدثت عام 1915، وخلفت أكثر من مليون ونصف المليون من الضحايا والمشردين.
ثانياً، ربما يكون هناك اقتصاد بحت، إلا أنه يشوبه ما يشوبه من الخبث السياسي. كيف؟ أذربيجان تعوم على بحر من النفط والغاز، ومن هذا المنطلق تسعى تركيا لاستغلال ذلك من ناحيتين، الأولى فتح أراضيها لمرور أنابيب النفط الآذري عبر الأراضي التركية، لفرض جباية مالية تعود بالمال على الجانب التركي، والثانية الاستفادة من الغاز الأذري على حساب الغاز الروسي، لوقف الابتزاز والمماحاكات الروسية بحق تركيا في سوريا وليبيا.
من هنا يمكن فهم لماذا حرف "تاجر الدم" في أنقرة بوصلة مرتزقة سوريا من ليبيا إلى أذربيجان، حسب تقارير استخباراتية غربية. وبعد تشريح المنهجية الإيرانية – التركية في التعامل مع الدولتين، يبرز الدور الروسي في المشهد، عبر دخولها على خط الأزمة، لكن ضمن خطوات أكثر ذكاء ومن مسافة أبعد، كيف؟ بالسعي لأن تكون تلك المنطقة من العالم، تشهد اضطرابات ونزاعات مستمرة، ليتسيد مشروع الغاز الروسي، الذي يمول القارة العجوز "أوروبا بأسرها"، وتركيا، وبعض دول القوقاز، لا سيما أن الاتحاد السوفياتي قبل تفككة، عمد على تغذية بعض الأطراف الأذرية بالسلاح، تحت ذريعة أنها أقليات لها الحق بالاستقلال والانفصال عن أذربيجان.
والحقيقة أن ذلك كان بمثابة ذر للرماد في العيون. فالهدف من وجود طرف مسلح خارج إطار الدولة هو خلق فزاعة تستمر عبرها آلة الحرب بالتناحر، لتنشغل بها المنطقة، وتلتفت آلة الاقتصاد الروسي لتغذية العالم بالغاز الروسي. ما يمكن استنتاجة من إصطفاف أحجار الدومينو السابقة المتنافرة، هو أن نسج خيوط العنكبوت بمنتهى السهولة لدى من يرون أنفسهم صقوراً وهم "غربان"، كما في طهران وأنقرة. في السياسة التي تتطابق مع "الحب" في مطلق "المباح"، لا بد من لاعب ماهر في دفع الآخر للدخول إلى تلك العوالم. بالحالة الإيرانية والتركية رغم أنهما "غربان" لا يملكون أدنى مقومات الإنسانية والتآخي والحياة والسلام، إلا أنهما يجيدان فنون الرقص على "جماجم" الآخرين،والبكاء عليها في وقت واحد.
هذا ما يحدث في الأزمة الأذرية – الأرمينية. دفعوا بالأذريين والأرمن إلى الاقتتال وصوروا أنهم ذوي قلوب وديعة، وقبلها السورية والليبية.
الحقيقة أن حفلة الإرهاب السياسي الإيراني التركي لا تزال بأولها. انتهى القول. إلى ضحية أخرى.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here