أرشيف

ماذا تعرف عن غالية

المصدر

نعتها أسلاف وأجداد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ«الساحرة والمشعوذة»، ولم تكن كذلك، لكن الصراخ على قدر الألم. كانت تتولى مهمة شحذ همم الرجال، ومدِّهم بالحكمة، والمال، والسلاح، إبان الوجود العثماني الغابر.
كان زوج غالية البقمي أحد كبار رجال تربة، معقل قبيلة البقوم، وأميراً على قومه، على الرغم من قول أحد الرحَّالة المستشرقين في تلك الفترة، إنها تملك ثروةً أكثر من أي عائلة عربية، فإن ذلك غير مُجدٍ بالنسبة لأي أحد كان في أي بقعة على وجه المعمورة يحرص على حماية أرضه وتاريخه.
حماية الأرض والإرث ليست بحاجة للمال، وإنما لقناعة مقرونة بالشجاعة، وهذا يُفهم – على الأقل – في ديدن من عاش وتربَّى أجداده وأسلافه على هذه الأرض، سواءً في الدولة السعودية الأولى، أو الثانية، أو الحالية.
الأرض كالعرض، هذا المفهوم وفق تصوري وُلد مع قاطني هذه الأرض، ليست مزايدة بقدر ما هي معدن حقيقي يُولد مع الإنسان ابن هذه الأرضي، ولا يُكتسب.
تصاعد صيت غالية البقمي بعد أن هزمت الأتراك في ثلاث معارك على الأقل قرب تربة، دفاعاً عن قبيلة أخرى ليست قبيلتها.
تجاوزت بسالتها قبيلتها، وفق مفهوم الوطن، والأرض، والدولة، ومفهوم الغُزاة بالمقابل. أرعبت جنود وجيوش العصملي.
اجتمع تحت إرادة غالية الوطنية آلاف الرجال من مختلف قبائل الجزيرة العربية، ما قاد الأتراك لوصفها بـ"الساحرة"، كنايةً عن قدرتها على جمع تلك القبائل، ليس تحت أمرها، بل تحت رجاحة رأيها وشجاعتها. كان ذلك بمثابة ضربة قاتلة لمعنويات المقاتلين الأتراك الغُزاة، وأثبتت في مقابل ذلك حنكة من يوصفون بـ"البدو" في تلك الحقبة، خصوصاً بعد أن أرسل العصملي محمد علي أحد قادته، ويُدعى طوسون، في عام 1318، يرافقه ألفا رجل للاستيلاء على تربة، إلا أنه عاد كسيراً بعد أن صدَّته، وهزمته هزيمة شنعاء.
توفي زوجها خلال احتدام المعارك، ولم تخبر الجيش بوفاته، خشية أن يصاب فرسان القبيلة بتدني المعنويات، والخوف، وبحسب ما فهمت من بعض الأصدقاء من أبناء قبيلة غالية البقمي، فقد وضعت حجراً على بطن زوجها لمنع انتفاخ جثته، وواصلت إعطاء الجيش أوامر على لسان الزوج المتوفى، بل أمرت الجيش بأخذ المياه إلى رؤوس الجبال، لتصدم جيوش العصملي بعدم وجود مياه، وبالتالي خاضت بحنكتها حرباً بالمياه، وهاجم شباب القبيلة الجيوش التركية من خلال خطة، واستطاعوا إبادتهم بعد أن أصيبوا بالإنهاك نظير العطش، وتحولت منطقة المعركة إلى هذا الوقت لـ"شعيب ريحان" كنايةً عن رائحة جثث الجيش التركي بعد أن أوسعوهم قتلاً.
أنا على يقين بأن التاريخ مليء بالقصص التي تحكي شجاعة وبسالة وفروسية الآلاف من أبناء هذه الأرض – ذكوراً وإناثاً – ولست بصدد التوثيق، أو البهرجة في هذا الجانب، وإنما أجد أن ثمة مكتنزات قصصية بطولية في التاريخ السعودي المعاصر يمكن من خلالها إنهاك معنويات البعض بالحقائق، وتذكير المتطاولين في أنقرة، وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي قال يوماً ما "إن دولاً لم تكن موجودة، وإن زوالها بات أمراً حتمياً"، بأن التاريخ القائم على الكذب لا يمكن له أن يُخفي الحقيقة، ولا تصنع الأمجاد بالعنتريات، والتسلق على إرث الأجداد، يمكنه أن يضعه في قوائم التاريخ الحر.
لماذا أرى أن التاريخ يمكن أن يكون له الدور الكبير في رسم ملامح الخجل على تعابير وجه العصملي المتعجرف؟ لأنه ذاته يعتمد على الجانب التاريخي الذي بلغ به أقصى الشرق، من خلال تكريس مفهوم الدولة العثمانية الأسود، تارةً بالدراما، وتارةً أخرى بخلق رمزيات تاريخية لتلميع صفحة إرث الدولة الملطخ بالدماء.
كتبت قبل أسابيع هنا أن الحكومة التركية دخلت في تفاهم مع الحكومة الباكستانية لإذاعة مسلسل "أرطغرل" الذي يحكي جزءاً من ذلك التاريخ، وهذا ما تحقق بكل أسف. أجزم أنه بقدر ما تشكل المقاتلة الشجاعة غالية البقمي مصدر فخر تاريخياً للمرأة السعودية في الجزيرة العربية، بقدر ما تشكل نقطةً سوداءَ في تاريخ الجيش العثماني، لا يمكن نسيانها على مر العصور، وأتفهم جيداً أن ذلك التاريخ مزعج بالضرورة للسياسة التركية الحالية، وعلى الرغم من مرور مئات السنين من تلك الحادثة، فإنها حقيقة عجز الأتراك عن إنكارها، وشطبها من الأرشيف والتاريخ العثماني المقيت.
حان الوقت لتكريس شخصية تلك القائدة العظيمة في قصص أدبية، وتاريخية، وترجمتها للغة التركية في شكل من أشكال القوة الناعمة التي يمكن من خلالها الوصول إلى المجتمع التركي المخدوع في تاريخ أسلافه الملطخ بالدماء، ولا ضير في ذلك، باعتبار أن هذا الأمر ضمن فصول وصفحات التاريخ الحقيقي، وليس المفتعل بالهرطقة والأكاذيب، كما يعمد أردوغان وطاقمه الحاكم في تركيا.
الأمر الحتمي أن الإرث الذي تملكه هذه الدولة برجالاتها ونسائها كفيل بعودة هؤلاء خطوة إلى الوراء. فاللعب بات على المكشوف، والقواعد تغيرت.
لا مجال للبكاء على اللبن المسكوب، حتى إن كانوا أقل من المواجهة تماشياً مع قول "الرمح غالٍ، والفريسة ذبابة"، إلا أن وضعهم في الخانة التاريخية الحقيقة مطلب يفترض عدم الرجوع عنه، على الرغم من أنهم فرائس.. ولا يستحقون.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here