تقاريرثقافة

في شروط استنبات التفلسف في السياق السعودي

المصدر

شهدتِ المملكةُ العربية السعودية في العقدين الماضيين نشاطًا متناميًا في حقل الفلسفة، وقد كانت الأندية الأدبية الأكثر فاعلية في هذا الحقل دون منافس؛ عبر مناشط منبرية وكتابية متنوعة، كما في «حرف» في نادي الرياض (2008م)، و«فكر» في نادي القصيم (2009م)، و«إيوان» في نادي جدة (2018). ولقد أفلحتْ هذه المناشط، على قلة مواردها، في تشييد بوابة ولجنا عبرها إلى عالَم أكثر احترافية وتخصصية وتراكمًا، حيث شهدنا كيانات مؤسسية، ومن أبرزها: الجمعية السعودية للفلسفة (الجمعية)، منصة معنى (معنى)، المركز السعودي للفلسفة والأخلاقيات، بجانب إسهامات مقدرة من قِبل الموسوعة العالمية للأدب العربي (أدب).
التأسيس لحالة التفلسف
من أبرز مخرجات هذه المؤسسات وثمراتها:
أولًا- تأسيس أول مجلة فلسفية سعودية محكَّمة: المجلة السعودية للدراسات الفلسفية SJPS (عن طريق معنى). ولا شك أن ذلك يعد حدثًا مفصليًّا له دلالته، وتبقى المسؤولية الأضخم في تقوية هذه المجلة الفتية وضمان بقائها وانتظام صدورها، مشيدًا بجهود الأستاذ بدر الحمود، والأستاذة سارة الراجحي، والدكتور بدر الدين مصطفى.
ثانيًا- تأسيس مجلة فلسفية عامة (عن طريق الجمعية)، تتضمن أبوابًا متعددة، وتقوم على فكرة الاستكتاب المباشر، والنشر للأبحاث والمقالات الفلسفية، وهي أيضًا مُطالبة بضمان البقاء والاستمرار والتطور.
ثالثًا- إصدار كتب فلسفية عدة عبر باحثين سعوديين؛ وفق الصنعة الفلسفية (عن طريق الجمعية وأدب ومعنى)، وفق مقاربات فلسفية متنوعة، وقد حقق بعضها قدرًا من التأثير في مستويات عديدة، وهذا شيء لافت بحق؛ إذ كيف يكون للنص السعودي الطري مثل هذا التأثير؟!
رابعًا- تنظيم برنامج قراءات فلسفية في الفكر السعودي (عن طريق الجمعية)، وهو برنامج يُعنى بتتبع موارد الفكر الفلسفي وتلمس منابعه لدى الرواد السعوديين، والعمل على إعداد أوراق بحثية، وجمعها في كتب متخصصة، يجري نشرها تباعًا، وهو برنامج نوعي له قيمته الكبرى في الأدبيات، حيث يمثل -في عمومه- عملًا أصيلًا، وهو ما يجعلني أشيد بجهود الدكتور عبدالله المطيري والدكتور شايع الوقيان في هذا السبيل.
خامسًا- تنظيم مؤتمرات وندوات متخصصة في الحقل الفلسفي (الجمعية وأدب ومعنى ودعم من لدن هيئة الأدب والنشر والترجمة) ومن بينها: المؤتمر السعودي الفلسفي: الأول والثاني. ولعل من المؤشرات الإيجابية في إطار التخصص، أنه أضحى لدينا أكاديميون رِصان في الحقل الفلسفي، ومن بينهم: الدكتور حسن الشريف والأستاذ الوليد السقاف.
التوصيف السابق توسل بقالب سردي احتفائي، وهذا من النقد؛ إذ ليس النقد في جوهره بالسلبي دون الإيجابي، فلا يطير النقدُ المنهجيُّ إذن إلا بجناحي الإيجابي والسلبي معًا؛ في ممارسة منهجية متزنة منصفة، تدوّن الإيجابي وتنميه، وتشخّص السلبي وتعالجه. ولو عدنا إلى السؤال الرئيس الذي وقع استكتابي لكي أدندن حوله، فمفاده: هل يمكن لمثل هذه الجهود أن تؤسس حالة من التفلسف في الفضاء السعودي؟
في الحقيقة، معلوماتي القاصرة من جهة عن تلك المؤسسات والجهود، وحجم هذا النص الصغير من جهة ثانية؛ لا يخولانني البتة إصدار حكم دقيق، مع نفوري المنهجي من تقديم إجابات قطعية بـ «نعم» أو «لا» في سياقات مركبة معقدة كهذه؛ من شأنها الجور في الحكم أو التغاضي عن الإيجابيات والفوائد والثمرات، أو عدم مراعاة الاختلاف في المداخل والمقاربات للمشتغلين في الحقل الفلسفي.
وعوض هذه المقاربة المتجهِّمة، سأبحر بمقاربة سمحة صغيرة صوب توصيف عام؛ لا يتوجه لكيان مؤسسي بعينه، ولا يتقصد شخصًا بذاته، وإنما هو تناولٌ منهجي يتعالى على الكيانات والشخصيات والسياقات الجزئية؛ علَّه بذلك أن يلامس روح المعالجة الفلسفية في تعاليها وعموميتها. ولكي يكون الطرح مركزًا ومكثفًا، فسأجعل المقاربة صريحة شفيفة في ثلاثة عناصر متسلسلة:
السلفية الفلسفية أو خصوصية فعل التفلسف
التفلسف هو فعلٌ يستلزم فاعلًا وهو: المتفلسفُ، لينتج لنا فلسفة أو نتاجًا فلسفيًّا (مفعولًا به). وهذا ما يجعلني أنبِّه إلى خطورة اشتغالنا بأكثر مما ينبغي في القراءة الفلسفية، حيث يحيلنا ذلك إلى تلامذة (نجباء أو غير نجباء) للدرس الفلسفي المنجز، وهذا أبعد ما يكون عن روح التفلسف الحقيقي، وأقرب إلى نمط من «السلفية الفلسفية»، الذي ينشِّط الذاكرة والاسترجاع والحفظ على حساب العقل والخيال والإبداع. وهذه السلفية الفلسفية يغلب عليها في سياقنا السعودي السلفية الفلسفية للآخر الغربي. وأنا هنا أقول من وحي تجربتي الطويلة في قراءة النتاج الفلسفي الغربي في مدة تتجاوز 33 سنة، أنني لم أفد كثيرًا من كثرة القراءة في هذا النتاج، ولاحظ أنني قلت: «كثيرًا»، «كثرة»، فالقراءة بقدر ما هي مهمة ومفيدة أيضًا لبعض، غير أن الفائدة الكبرى التي ظفرتُ بها، تكمن في القراءة في التراث العربي الإسلامي.
قد يقول أحدكم: لا تُلقي الكلامَ على عواهنه: فما دليلك على هذا الزعم؟
الكلام حول هذا يطول، والدليل ذو طبيعة «تجريبية»، ولذا فإنني أُلمح، على عجل، بأنني -مثلًا- قرأتُ باهتمام شديد -ضمن مجموعة قراءة مع عدد من الأصدقاء المعرفيين النابهين في مدينتي بريدة- نصوصًا فلسفية غربية بكامل قضها وقضيضها كـ«نقد العقل المحض» لكانط، «فكرة الفينومينولوجيا» لهوسرل، «الكينونة والزمان» لهايدغر، «الكينونة والعدم» لسارتر، «منطق البحث (الكشف) العلمي» لبوبر وشطرًا من كتابه «المشكلان الأساسيان في نظرية المعرفة»، «بِنية الثورات العلمية» لتوماس كون، فضلًا عن مئات الكتب الأخرى في مباحث وجودية وإبستمولوجية وأخلاقية ومباحث فلسفية أخرى، مع ذلك لم أكتب نصًّا فلسفيًّا صغيرًا، فضلًا عن كتاب فلسفي؛ بناءً على هذه القراءات العسيرة المتطاولة.
وحينما عدتُ إلى القراءة المتأنية في التراث العربي الإسلامي، وجدتني أنعتق من: «تفكير الأذان» إلى: «تفكير الأذهان»، ومن ضيق المصطلح الأعجمي إلى شسوع المصطلح بلغتي الأم، حيث أنتجتُ أول نصوصي الفلسفية بعد مدة لم تطل من تلك القراءات التراثية، وهو كتاب: «ابن تيمية فيلسوف الفطرة– نحو كبسلة الفيلسوف» (2021م)، ثم تلاه مباشرة نصي الثاني: «كينونة ناقصة– أحد عشر سؤالًا في قراءة الفلسفة» (2022م)، وكذلك بحث «الحد المائز بين الدين والفلسفة والعلم» (2022م) للمجلة السعودية الفلسفية المحكَّمة، وذلك بعد قراءة معمقة لعدد من النصوص التراثية كـ«تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، و«درء تعارض العقل والنقل» و«الرد على المنطقيين» لابن تيمية. ثم أنتجتُ نصًّا لغويًّا بقالب متفلسف (2023م)، بعد قراءةِ «دلائل الإعجاز» للجرجاني وشطرٍ من كتابه «أسرار البلاغة»، حيث وضعتُ كتابًا مع الدكتور معاذ الدخيِّل يتمحور حول فكرة «الانبناء اللغوي»، عوض «البناء اللغوي»، حيث ألهمني هذا الجرجاني العملاق بأن اللغة هي انبناء جوانيٌّ لا بناءً برانيًّا، ثم كتبتُ بحثًا فلسفيًّا لمؤتمر فلسفي في المغرب، بعنوان: «العلوم الإسلامية والإنسانية: من الفصل إلى الوصل: نحو بلورة مرشاد التكامل الاندماجي».
من الواجب عليَّ هنا التنبيه إلى أنه ليس مهمًّا إطلاقًا التعريف بأعمالي الخاصة لذاتها، فهي ليست ذات بال على الإطلاق في هذا السياق، وإنما أوردتها فقط من باب التدليل «التجريبي» على الفكرة التي أومأتُ إليها، والتي بِتُّ أعدُّها قاعدةً معرفيةً، وأضعها في هذه الشذرة: «تراثك يُخصِّبك، وتراث غيرك يعقِّمك!». ومن يشكك فيما قلتُه وعايشتُه وأنتجتُه، فعليه أن يخوض «التجربة» بنفسه، ولعله إذ ذاك أن يشاركنا نتائجها، أيًّا كانت، داعمة أو داحضة!
التفلسف الناجع
بمراعاة ما سبق وتأسيسًا على جانب منه، أشير إلى أن التفلسف الناجع للمجتمع، هو ذلك الذي ينبتُ في تربة المجتمع، ويتغذَّى على دينه ولغته وثقافته، وهذا ما يدعو إلى إقرار مبدأ «التفلسف المخصوص» عِوض «التفلسف الكوني»، وذلك في الجوانب التي يكون للدين والثقافة واللغة تأثيرٌ جوهريٌ في تشكيلها، من جهة: الغايات أو المالآت. وهذا ما يجعلني أشدد على أهمية عدم إقصاء «التفلسف الأصيل» النابع من تراثنا العربي الإسلامي أو تهميشه أو وصمه بالدروشة، أو نحو ذلك من التوصيفات الإقصائية السلبية، على أن يكون البرهان هو الحاكم في الساحة الفلسفية. وأحسب أن المشتغلين بالفلسفة هم من أحق الناس بصفة التعاطي السمح مع المداخل والمقاربات المتنوعة ولو كانت معارضة لما يؤمنون به، على أن يكون هذا التعاطي مسيَّجًا بالبرهان، حتى لا تكون الساحةُ مُستباحةً لكل من هَبًّ بكلمات أو دَبَّ بكتابات، مسترشدين بقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الأنبياء: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ (الآية: 24). ليس ثمة دينٌ برهانيٌّ كالإسلام، فالإله يقول للمشركين به: هاتوا برهانكم على شرككم بي! يا له من تسامح معرفي، فالكل يطرح، شريطة البرهانية!
لا تكتمل نجاعة التفلسف إلا بكونه يتصدى لمعالجة الإشكاليات المجتمعية في سياقها المحلي وتراكماته وأدبياته وفواعله وغاياته وآثاره؛ وفق مبدأ «إحداث الأثر المجتمعي»، وتعظيم الانتفاع من التفلسف في: تغيير الأفكار والاتجاهات السلبية، وتنمية التفكير المنتج الخلّاق. وهذا محكٌّ مهمٌّ لنجاعة التفلسف، والسعي لترجمة التفلسف إلى: سياسات وإستراتيجيات وبرامج عملية ما أمكن، ولو بعد حين؛ فالعلم هو الذي تكون في العادة نتائجه أسرع تحققًا من الفلسفة. وهذا أمرٌ مسلمٌ به -فيما أحسب- في الأدبيات الإبستمولوجية وتاريخ الفلسفة والعلم. وكل ذلك يؤكد خصوصية فعل التفلسف لا كونيته المبالغ فيها. وحينما أقول «المبالغ فيها»، فإنني أعترف طواعيةً بأن ثمة تفلسفًا كونيًّا، وهو التفلسف المتعلق بالأبعاد ذات الصلة المباشرة بـ«الإنسان الكلي»، المتجرد عن الدين والثقافة واللغة، على أن هذه الأبعاد باتتْ تضمُرُ شيئًا فشيئًا؛ من جراء التشويه المتنامي للفطرة الإنسانية، وعبث القوى الكبرى في إعدادات الإنسان والتحكم في عقله ووجدانه وروحه وجسده. وهذا بابٌ يطولُ فيه الحديث، ولعل في هذه الإلماحة ما يغني.
ونُفيد من تقريرنا لهذا الضابط المنهجي في فعل التفلسف الناجع، التأكيد على ضرورة العناية الفائقة باختيار الموضوعات للمؤتمرات الفلسفية، ووضع معايير منهجية دقيقة لبلورة الموضوعات الأكثر إلحاحًا وتحقيقًا لمبدأ الأثر المجتمعي. الموضوعات الفلسفية الرصينة لا تكاد تخلو من فوائد، ولكنها قد تكون فوائد قليلة لنا، أو غير مباشرة، أو أننا لم نمتلك بعدُ ناصيتها، أو لم نستوعب ماهيتها وأبعادها الجوهرية كما يجب. فعوض معالجة موضوعات معقدة متقدمة، كاللامتوقع والفضاء والزمان، مع عدم وجود أو قلة المتخصصين في مثل هذه القضايا لدينا، يحسن بنا اختيار موضوعات تمس الحاجة إليها، على أن نعد لمثل هذه المواضيع، المركبة المعقدة، ما يكفي من حلقات نقاشية وندوات صغيرة، ونؤسس لها مجموعات قراءة متخصصة ومجموعات بحثية، لفترة كافية من الزمن والتخمر. فإذا كوَّنا قاعدة بحثية فلسفية صلبة حيالها، فإننا في هذه الحالة نتوجه إلى طرح مثل هذه الموضوعات في سياق عالمي؛ إذ إننا حينذاك يمكن أن نقول شيئًا ذا بال.
قد يسأل أحدكم: وما الموضوعات التي تقترحها أنت؟ أقول باختصار: لا أدري؛ لأننا لم نتفق بعدُ على معايير اختيار الموضوعات التي يمكن طرحها في مؤتمرات فلسفية ذات طابع دولي. وهذا ما يجعل النقاش الفلسفي السعودي منهجيًّا؛ إذ لا نفعل شيئًا ولا نحجم عن آخر إلا بالمنهج.
لعل في طرحي هذا المختصر، الذي تعمدتُ أن يكون على هذه الدرجة من التلقائية والصراحة، ما عساه يُفيد في استنبات التفلسف في التربة السعودية الخصبة، وأحسب أننا بِتنا نمتلك عقولًا رائعة، سواء في الجيل الذي كان، ولا يزال، يحاضر ويجادل ويكتب ويدرب، أو في الجيل القارئ الصاعد. أملي كبيرٌ، والله ولي التوفيق.

عبدالله البريدي – كاتب وأكاديمي سعودي

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here