تقاريرثقافة

في‭ ‬ضرورة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني لمناهج‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الخليج

المصدر

الكتابة في «الإصلاح الديني» تحيطها الريبة وتدعو إلى التحوط؛ لأن الدين موضوع يمس جمهورًا عامًّا مشحونًا بالعاطفة، ثم إن الدين ضبابي التعريف؛ في ضوء القياسات المختلفة للأشكال (المظاهر) التي يتخذها ما هو (ديني) في المجتمعات المختلفة. في البدء لا بد من القول: إن الدين، أي دين، هو ضرورة إنسانية؛ فلا يمكن تصور مجتمع بلا دين، سواء أكان دينًا سماويًّا أو وضعيًّا أو حتى طوطميًّا بدائيًّا. فمهما تقدم العلم تبقى هناك مناطق غير واضحة للإنسان، أو قُل مظلمة يمكن تفسيرها من خلال الركون إلى (الإيمان) بقوة خارجية تنظم حياة الإنسان. ذلك في إطار التدين الأشمل الذي يتقاطع تقريبًا مع كل الأديان.
اقتراب العلم من الدين بمحاولة تصويب الأساطير والخرافات، كما يذهب بعضٌ، تلك مدرسة قد فشلت. لقد حاول علماء الاجتماع الغربيون، في القرن التاسع عشر، قراءة الإيمان الديني على أنه ظاهرة يمكن تفسيرها، وبالتالي الاستغناء عنه أو استبدال علم الاجتماع الحديث به، مثلما بشَّر أوغست كونت بأن «علم الاجتماع في حال اشتداد عوده العلمي سوف يحل محل الدين»! أو ما بشر به كارل ماركس من استغناء البشر عن الدين في حال توفير حاجاتهم المادية. ولقد حاولت دولة كبرى مثل الاتحاد السوفييتي أن تفعل ذلك ولسنوات طويلة، ولكن في نهاية الأمر بقيت (الأرثوذكسية) في تلك البلاد، بل انتعشت في العقود الثلاثة الأخيرة.
كما وجدت المسيحية نفسها تتفرع إلى اجتهادات مختلفة، بعضها مصالحي، وقامت بسبب تلك الاجتهادات حروب شعواء، كما تم بين البروتستانت والكاثوليك في القرن الثامن عشر. وحتى اليوم هناك خلافات في مظاهر الإيمان بين فروع المسيحية المختلفة. وعندما ذهب الرجل الأبيض إلى أميركا اضطر إلى اختراع مذهب يناسبه، فولدت المورمونية (المرمون) التي يتبعها اليوم ملايين الأميركيين. وفي مرحلة من تاريخ البشرية الحديثة وضع (الإيمان) و(العلمانية) في موضع صراع، إلا أن الإنسان في نهاية المطاف، وبشكل عام، وجد أن (التعايش) بين الاثنين، دون إفراط ولا تفريط أو تهوين أحدهما للآخر، هو الطريق الأفضل لتقدم الإنسان وسعادته.
الظاهرة الإسلامية الحديثة
مع الهجمة الاستعمارية الغربية على المنطقة العربية والإسلامية كانت ردة الفعل، في جزء منها، هي (العودة إلى الدين) وكان ذلك مبررًا في وقت ما؛ بسبب الموقف من الغرب. وتمثلت ردة الفعل الأخرى في العودة إلى القومية، التي كانت فكرتها قد انتشرت في الغرب أيضًا. وقد لعب الدين، في البداية، كقوة مقاومة للاستعمار، بدرجات مختلفة، كما أصبح بينه وبين الفكرة القومية صراع لبس ثياب التحرر أو الجمود. إلا أن الإشكالية الكبرى التي واجهت (التيار الإيماني) -كما تجلى في أعمال وصياغات من تصدى لذلك الملف- هو تدني الإحاطة بجوهر الدين، أو بالأحرى بمقاصد الدين الإسلامي. وقد صاحب ذلك في كتاباتهم فقدان السبب المعرفي للمبادئ، وغياب التفرقة بين جوهر الإسلام والأعراف والتقاليد والتفسيرات التي جاء بها الأولون.
ولو قرأنا بأناة تلك الكتابات التي أسست لما أسميه (الإسلام الحركي) لوجدنا أنها (انتقاء عشوائي من التراث) أي من جملة المفسرين على مر الزمن الإسلامي. ربما حدث ذلك عن وعي وبإصرار مسبق وربما حدث ذلك من أجل التوظيف، إلا أن الالتباس بين (الديني) و (السياسي) قد حدث بين كل تلك الجماعات التي اتخذت الإيمان طريقًا للحصول على موقع سياسي في المجتمع.
ما نلحظه اليوم هو أن هناك حضورًا واسعًا للتدين في المجتمعات العربية وهناك شح منهجي مفرط في تحليل الظاهرة، مما جعل معظم التفسيرات تعتمد على (النقل) من المتقدمين، واعتبار اجتهاداتهم (مقدسة) لا تمس. ولا يمكن أيضًا تخليص الظاهرة أو تبرئتها من مثلبين أساسين على الأقل وهما: التكسب السياسي، والتكسب الاجتماعي، أي الحصول على وجاهة وشهرة اجتماعية.
بمجرد أن رسم علم الاجتماع الحديث خرائط انشغالاته، التفت إلى (الظاهرة الدينية) وأصبح هناك كتابات منهجية، وبخاصة في الديانة المسيحية، إلا أن سقف الفرص المتاحة للعاملين في الاجتماع الإسلامي كانت ضيقة، فضاقت الاجتهادات أو انحصرت في بعض كتابات وتُرك أمر الكتابة في التفسيرات الدينية، في الفضاء العربي الإسلامي، في الغالب، إلى مبتدئين ينقصهم المنهج لفهم الظاهرة وتطورها مع الزمن ومقارنتها بالاجتهادات المختلفة.
للتدليل على ذلك أذكر تجربة مررت بها عندما كتبت مقالًا مطولًا في مجلة العربي، إبان رئاستي للتحرير، عن (أهمية التسامح) وجاء من استحسن المقال وقرره على منهج طلاب السنة النهائية في السلك الثانوي في الكويت، وطلب مني أن أزور إحدى المدارس للحديث عن الموضوع للطلاب والمدرسين. وعندما فعلت، فوجئت وأنا أقرأ النص المقرر وبخاصة الأسئلة التي تلت الموضوع! وكان أولها: «كيف تثبت أن كاتب المقالة مسلم»! إن أحسنا النية فإن من قرر ذلك يرغب في أخذ الطلاب إلى الحديث عن الإسلام؛ ففي المقال إشارة إلى التسامح في الإسلام، ولكن ذلك السؤال فيه كثير من السذاجة.
لقد تُركت المناهج في مدارسنا، في نصف القرن الماضي، إلى مجموعات (حركية) فقدمت التراث الإسلامي لعدد من الأجيال دون تفرقة بين (النص) و(الاجتهاد الإنساني) كما تغافلت عن مدرسة مهمة في الفقه الإسلامي هي مدرسة أو فقه المصلحة فأصبح المتلقي، الطالب أو الطالبة من صغار السن، مقطوع الصلة بالواقع، أي البحث فيما ينفعه ويحفظ ذاته.
من هنا طمست الوطنية في تلك المدارس لصالح الأممية، أي ما فوق الوطن، فأصبح الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم ثانويًّا في سبيل الوصول إلى (أممية إسلامية) متخيلة وغير واقعية. ولم تعد الحاجة ماسة، في تلك البرامج، إلى دراسة الأشكال الأولية والبنيوية للواقع الاجتماعي المعيش أو تحليل هيكلية الوفاق الاجتماعي ومصالح الدولة. فأصبح هناك تيارات تؤمن أن مصالح الدين مرتبطة بمصالح الأمة ككل وليس بمصالح الوطن، وأن التضحية بمصالح الوطن (في نظرها) واجب ديني!
ازدواجية التفسير الديني
المراهنة اليوم هي على كيفية استخدام الإيمان كدافع للتقدم والتنمية مقابل مدرسة أخرى تستخدم بعض مضامينه كوابح ضد التقدم والتنمية. للقيام بذلك يتوجب أن نقرأ التراث قراءة حديثة خارج السياق التفسيري التراثي، أي بالعودة من جديد إلى مقاصد الإسلام الكبرى وهي سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وسوف تظل القراءة ذات المصالح الضيقة حاضرة، إلا أن المعركة الفكرية والثقافية أوجب أن تخاض، من خلال منهجية واقعية.
لا يزال بيننا من المشعوذين من يجعل نفسه زعيمًا ومفسرًا للنصوص ويروج إلى أن مصالحه هي من أصول الدين، ويضرب بعرض الحائط المصالح المرسلة للناس وما يفرضه المنطق والتفسير السليم. يمكن معرفة هذه المدرسة من خلال إسقاطها للزمن؛ فبمجرد طرح أي قضية نجد هؤلاء الأشخاص يسارعون لاستدعاء ما حدث في غابر العصور، بمنهجية أقرب إلى الخرافة.
الأكثر إلحاحًا بجانب تنقية المناهج هو تدريب المدرسين القائمين على التعليم في المدارس؛ فهؤلاء هم حجر الزاوية في إصلاح المفاهيم وتصويب الأخطاء. كما أن منهج الحوار مطلوب في كل درجات التعليم، وفيه ينبغي الاعتراف أن الإنسانية في تطورها قد مرت على الأقل بثلاثة أطوار في التفكير: الطور اللاهوتي وربما الخرافي، والطور الميتافيزيقي المجرد، والطور الذي نعيشه هو الطور العلمي التجريبي الذي أوصل الإنسانية إلى ما هي عليه من تطور، وبفضله أصبح العالم أكثر قربًا وأكثر تسامحًا مع المختلف معه. كما ينبغي التأكيد أن غرض البشرية الأسمى هو إعمار الأرض وتحقيق سعادة الإنسان.
من هذا المنطلق يتوجب أن ننظر إلى تنقية الدين مما لحق به من ممارسات كانت سبيلًا فقط للشهوات السياسية والتكسب المصلحي.

محمد‭ ‬الرميحي‭ – ‬أكاديمي‭ ‬وكاتب‭ ‬كويتي

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here