أرشيف

«عائلة يموت أفرادها فجأة» لـ عبدالحفيظ طايل

المصدر

في الوقت الذي يبدو فيه أن أغلبية شعراء جيل التسعينيات في مصر قد ظهرت ملامح تجاربهم وسمات نصوصهم، وانحيازاتهم الجمالية؛ إذ يسعى الكثيرون منهم إلى التراكم الكمي بالتزامن مع ظهور جيل يختلف في رؤيته وتوجهاته عن سابقيه، وهو الجيل الذي بدأت تجاربه بالتزامن مع ثورات الربيع العربي والأحداث التي تلتها، في هذا الوقت يقدم عبدالحفيظ طايل أحد أصوات جيل التسعينيات في ديوانه الرابع «عائلة يموت أفرادها فجأة» خيارات جمالية مختلفة عن ديوانه السابق «يحمل جثة ويغني» حيث تتعدد آليات السرد ويبدو مفهوم الصورة بصريًّا أكثر حضورًا من مفهومها البلاغي، فجاء الخطاب الشعري عبر تقنيات سردية متنوعة ومتخيل سردي ينطلق من مخيلة استعادية يقدم من خلالها بنية تخيلية يمتزج داخلها الغرائبي بالواقعي؛ ليُحدث توترًا دلاليًّا من خلال متناقضات تصنع الدهشة وفي الوقت ذاته حالة إدراكية تصنع محاكاة لواقع معيش؛ حيث هيكلة لمنظومة حكائية عبر زمن الحكاية والتنافر بين العناصر السردية بوصفها مكونات السرد.

فالحكاية حاضرة وهي الملفوظ السردي، والحكي يرتبط بالمجتمعات كافة كفعل كوني، ومن هنا يؤكد الشاعر قدرة قصيدة النثر على احتواء العديد من النصوص داخل النص الواحد والتفاعل والتواشج مع الفنون الأخرى .

تنقسم نصوص الديوان جزأين؛ الأول «البعوضة الضخمة التي خطفت أكياس المعرفة» ويضم 19 نصًّا وهو الجزء الأكبر، والجزء الثاني «الأشياء على حالها منذ زمن» وهي الجملة الختامية للنص الأخير في الجزء الأول « النحلات الدوارة»، ويضم هذا الجزء 14 نصًّا، ومنذ عتبة النص الأولى يبدو السرد الحكائي ظاهرًا حيث العنوان وهو مكون رئيس من مكونات النص «عائلة يموت أفرادها فجأة»، ويبدو في تكوينه مراوغًا بحسب المسند والمسند إليه، فالفعل يموت هو المسند، وأفراد العائلة المسند إليه، ويمكن من خلال المحور التتابعي إعادة ترتيب هذه الجملة بأشكال متعددة، فالجملة كوحدة بنائية تحمل علامات وليست علامة يحكم تكوينها، وترتيب الألفاظ داخلها يأتي عبر محورين: المحور التتابعي بحسب موقع الكلمة داخل الجملة، والتبادلي في إمكانية استبدالها.

كما أن العنوان به حذف؛ إذ يمكن أن يكون «هذه عائلة» أو «أحكي عن عائلة… أو» أكتب عن… إنه يحمل الإخبار وكأنه يقول عائلتي يموت أفرادها فجأة، أو إنه في العزلة ينتظر الموت، فالعائلة علامة سيميائية، والموت علامة والمفاجأة علامة ثالثة فالجملة وحدة بنائية تصنع أفقها الدلالي وإنتاجيتها، ولا تتوقف عتبات النص عند العنوان، فثمة عتبات أخرى؛ عتبة للجزء الأول «البعوضة الضخمة التي خطفت أكياس المعرفة»، ففي فعل الخطف حركة عنيفة وسريعة، ويمثل اختفاء أكياس المعرفة جهلًا وفقرًا فكريًّا وجمودًا، والبعوضة الكائن المهمش والمزري ضخمة، وكأننا أمام وحش أسطوري يعيدنا إلى الميثولوجيا وبخاصة في بلاد ما بين النهرين والطائر « أنزو» الذي سرق «لوح الأقدار».

وفي عنوان الجزء الثاني «الأشياء على حالها منذ زمن»، تبدو لغة التواصل اليومي في بحثها عن تواصل إنساني ومواجهة سطوة اللغة، حيث اللغة أقرب إلى لغة التواصل اليومي وتقدم وظائفها المتعددة، وتتواءم مع الذات الشاعرة في الانحياز إلى ما هو بسيط وعادي. لقد انتهت وجهة النظر البطولية، وبدا الإنسان بخطاياه ومخاوفه وهشاشته في الواجهة، وانتهت السرديات الكبرى لصالح الحكايات الصغيرة للمهمشين وصراعاتهم مع الحياة بوصفها أسطورة.

ومن العتبات إلى تقنيات السرد والزمن، حيث التحول من الزمن الخارجي إلى الزمن الداخلي، زمن المبدع، وعدم استيعاب الحكاية في جملة واحدة وإنما على مراحل زمنية، فمتابعة الحدث تقود إلى زمن الحدث الذي ينطوي على أزمنة متعددة مثل الزمن الداخلي الذي توجد فيه الشخصية والأحداث، فكلها تعمل في الزمن الداخلي الذي يتحول إلى زمن المبدع. فاللحظات الشعرية المتتابعة داخل النصوص وكسر وتفتيت الزمن، والمقابلة بين لحظات متناقضة وتحولات مفاجئة للحدث، تمثل فارقًا أساسيًّا بين السرد في الشعر والسرد في القصة والرواية، مثل نص «موسيقا» ص 9 حيث العلاقات المتناقضة والتحولات المفاجئة:

«سمعت حالًا سيمفونية تقول للكمنجة/ هذا العازف مسكين جدًّا/ فساعِدِيهِ بأغنية».

وبعيدًا من المفارقة فالتحول من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم أحدث توترًا دلاليًّا، وصنع لحظات متقابلة يتشكل من خلالها الزمن، ومن بنية السرد الحكائي تشكل مجازًا كليًّا ممتدًّا يصنع صيرورته التأويلية وكثافته الرمزية.

وفي نص «عائلة يموت أفرادها فجأة» تبدو التحولات داخل السرد والتنقلات المفاجئة، واللحظات المقابلة والمتناقضة، التي شكلت بتنافرها علاقات متشابكة من خلال التضاد بين العناصر، وأظهرت صراعًا حديًّا على الحافة بين الموت والحياة أو الموت والضحك «وكان المارة يميزونهم بضحكاتهم». فالانتقال من فعل الضحك وطبق الفاكهة إلى صعود أحدهم بيسر كأنه صعد مع أبخرة الشاي، وتمييز المارة لهم بالضحكة المكتومة فضحكة العين الوسيعة إلى لحظة الصمت وقول المارة، جميعها لحظات زمنية يتفتت خلالها الحدث، وانتقال الزمن من الخارجي « كانوا يضحكون» إلى زمن داخلي يكشف عنه ويجاهر به «ترن فقط في فضاء القلب/ ضحكة/ واضحة للداخل».

وتلتبس الذات بمحبيها حيث «أولًا: ضحكة عبدالله محمود السيد» ص 27، و«ثانيًا: ضحكة ياسر طايل» ص 29، و«عمتي سميحة» ص 31، ثم «ستي خضرة» ص 33؛ هذه النصوص تبدو كلعبة سردية في رواية أصوات، ويبدو الغائبون كتمظهرات للذات، تمامًا كالعازف في نص «موسيقا»، فعلاقة الأنا بالآخر حاضرة، والذات كامنة في صورها المتعددة، وحضور الذات يكمن في حيواتهم، إنه يقدم سيرته من خلالهم، ولا يرتبط الغياب بالموت كعلامة، فالموسيقا والغناء يمثلان علامتين سيميائيتين في مواجهة للموت. وما بين الموسيقا والموت تنطلق الذات الشاعرة في نص يعتمد على تعدد الأساليب الشعرية والاحتفاء بالمهمش والعادي، مثل: حبال الغسيل وأسلاك الكهرباء، والأطعمة الرخيصة.

وفي نص «مكالمة صباحية» ص 35 يحضر الحوار كتقنية سردية، وهو حوار عبر وسيط (الهاتف)، ومن طرف واحد، حوار متخيل مع الموت يتجاوز الديالوغ ويتحول بين الضمائر من المخاطب إلى المتكلم، والتحول من الماضي «كنت» إلى المضارع «تحاول» فالمستقبل عبر الحرف (س) وهو للمستقبل القريب «سأستعيد/ أحبتي/ وسوف تجلس على كرسي/ فخم». وبالانتقال من (س) إلى (سوف) يواصل مراوغة الزمن وتجاوز شكله الفيزيقي ليصنع زمنه الخاص، كما يشتبك مع الميثولوجيا كأنه في محراب أحد الآلهة القديمة.

إن توظيف السرد داخل النص الشعري ليس هدفًا بل سعيًا إلى نص شعري أكثر اتساعًا، ومحاولة للوصول إلى جوهر الأسطورة الجديدة، أسطورة الحياة واكتشاف ما هو شاعري في أحداث بسيطة وعادية، ومحاولة اكتشاف الحياة بالوعي الطفولي للشاعر طوال نصوص المجموعة، حتى إنه يكشف عن آلياته في المقطع الأخير ص88 حيث يقول: إنه يحكي كجثة وكأنه يؤكد على اللايقين بهذا العالم. إننا أمام خطاب شعري ثري يعيد اكتشاف العالم ويطرح أسئلته؛ بحثًا عن حياة ذهبت مع الغائبين، ويقدم تقنيات وآليات متنوعة، ويشكل إضافة إلى المشهد الشعري.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here