أرشيف

سحارة الأجداد وصندوق باندورا

المصدر

أحياناً تقرأ الأساطير اليونانية بذهن منفتح لتعدد التأويلات باعتبارها إرثا (إنسانيا)، فكما أن من حق بورخيس وباولو كويلو الاستشهاد بألف ليلة وليلة والصوفي حسن الذي كان من أهم معلميه (لصٌ وكلبٌ وطفلٌ)، فمن حقنا الاستشهاد بزيوس وبروميثيوس وباندورا، ما دامت في أساطيرهم حكاية للمعتبرين دون النظر للدلالات القاصرة التي تقتل بها الأصولية الدينية كل المعنى الأدبي والإنساني العميق بداخل الحكايات والأساطير التي خلفتها البشرية، ولهذا لا تستطيع الأصولية الدينية في كل الديانات استيعاب هذا المعنى المفتوح في قراءة التراث الإنساني من حضارة الصين شرقاً إلى حضارة المايا غرباً، لأن الأصولية الدينية تقدس الماضي، (تقديس الماضي) يجعل الذاكرة (عقيمة) تكرر أخطاء الماضي بكل غرور وصفاقة.
من أهم الأساطير أسطورة (صندوق باندورا) التي تشد القارئ ويراها تتحدث عن واقعه في أقصى الأرض، حيث حصن جده المهدوم القديم في قلب الجبل، يستعيدها كنبوءة بمستقبل الصندوق (السحارة القديمة) التي تركها جده الرابع لجده الثالث لجده الثاني لجده الأول لأبيه ثم له، وكل وصايا الأسلاف تقول بصوت عال: احذر أن تفتح هذه السحارة ففيها الفتن وصراع السلطة والكراهية والحسد والغرور والجشع والوهن والرجاء، ستنطلق من عقالها بمجرد فتح هذه السحارة التي تركها الأجداد، وقد حفظوها ميتاً عن ميت دون أن يغامروا بفتحها، فيكتنفك الفضول إلى أقصاه كأنما أنت سليل باندورا صاحبة الصندوق في الأسطورة الإغريقية، فتفتح الصندوق متوهماً أنك امتلكت كل المعاني التاريخية للأسلاف، فتكتشف أن (السحارة) مليئة بالأوراق القديمة التي تحكي عن (مجد وغبن، عز وذل) لأموات لا نعرف قبورهم، لكن المصيبة أن أحفاد أحفادهم ما زالوا أحياء، وكل حادثة تحكيها الأوراق سيقرؤها الأحفاد بشكل يتجاوز النطاق التاريخي للأسلاف، لتنطلق التأويلات وتعدد القراءات ثم صراع الأسئلة المرير (مَن يملك من؟ من يتحدث عن من؟ من سليل من؟ من حفيد من؟ من حكم من؟ من قاتل وقتل من؟ من حمى واحتمى بمن؟ من خان من؟ من تزوج من؟ من باع من؟ من شرى من؟ من ابن الجارية؟ من ابن الحرة؟ من إخوة من؟ إلى ما لا نهاية مِن مَن ومَن ومَن…) لينفجر من هذه السحارة القديمة كل الشرور التي تقرؤها في أسطورة (صندوق باندورا)، فتتراجع عما فعلت، وتحاول أن تقنع الأوصياء بإغلاق السحارة على الكلمات القديمة للأسلاف كأنك لم ترَ ولم تقرأ ولم تفهم، فذلك خير من أسئلة تستجلب في النفوس كل الفتن وصراع السلطة والكراهية والحسد والغرور والجشع والوهن والرجاء، فتختار أن يبقى الناس على (ظنونهم المحتملة)، مهما نشروا ملابس بعضهم على حبال الكذب والنميمة والنفاق، فذلك خير لهم من أن يعيشوا (حقيقة غير محتملة) ليقطعوا لحم بعضهم بسكين القداسة في أوراق الأسلاف.
كثيراً ما تسمع تلك العبارة الشهيرة (هناك بشر لا يرتقون لمستوى الحقيقة) فكأنما الحقيقة واقع شاهق لا تدركه كل العقول ولا تستطيعه كل القلوب، بينما ظل الحقيقة ذاك أقصى ما يستطيعه العاديون من البشر، وذلك ما يليق بهم دون أن يتحولوا إلى وحوش باسم الحقيقة، ولهذا حتى الدين يتحول بالمشادة والمغالبة إلى تزمت قاتل، فكيف بسحارة قديمة تحوي مئات الوصايا والرسائل والمواثيق، كلها بطعم التراب عن أموات ينجبون أمواتا، وأحفادهم أحياء يمضغون سلوى الكلام بأحاديث يروونها عن (جدتي قالت) عندما عجزوا عن (جدي فَعَل).
سحارة قديمة كانت وما زالت في جبال تهامة الممتدة من اليمن حتى الشام تكاد تستعيد كل أساطير (صندوق باندورا)، وانطلاق الشرور بمجرد أن تم فتحها بسبب الفضول القاتل، السحارة حملت قداسة الأسلاف، وباسم هذه القداسة يروي الأسلاف أن العثمانيين أرسلوا العرب باسم الجهاد لأقصى الأرض، وباسم الخلافة العثمانية باعوا نساء وبنات وغلمان أبناء جزيرة العرب في سوق النخاسة بإسطنبول، وصولاً لحكايا الأحفاد عن بيع ما سمي (المقاتلون العرب) في أسواق المخابرات العالمية (أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك، والموصل، والأنبار، وبادية الشام)، فلم يبق سوى حنين متشح بالسواد إلى ما سموه (الذبح العظيم) كنبوءة يفرضها المهووسون على رؤوس العاطفيين، ليتجلى عبر هذه السحارة القديمة حاملة روح الأجداد صوتا صارخا في الأحفاد، احذروا أن تفتحوني، فلست فقط صندوق باندورا بشروره التي لا تنتهي بل في داخلي أيضاً (عار التاريخ) إن احتملتموه يا أصحاب العقول النابهة والقلوب القوية فلن يحتمله المرهفون الصادقون من البسطاء، فكفوا عن مضغ لحم قلوب الأحياء الطيبين بحكايا الأموات العتاة القساة، عيشوا أحراراً غافرين لمن يكذب في التاريخ حتى ولو نسب نفسه لغير أهله، فشتاء الأنساب بين العربان قارس، فلا تضيقوا بأبناء العم والخال من سام وحام ويافث، فالجد آدم والأم حواء، وتذكروا أن معاوية كان صديقاً ليوحنا الدمشقي، كي لا تذهب بكم كبرياء السلالة العربية لمدى يصرخ بإمكانية رمي الأعداء في البحر، فالنوخذة اعتزل البحر والغواصون تحولوا إلى «ركمجية» بعضلات مفتولة، يركبون الأمواج العاتية لكن (على الشاطئ) كرياضة استعراضية بامتياز، لكنها لن تنجب أبداً (ابن ماجد)، عدى أن تنجب (كولومبوس) جديدا.
يكفينا من (سحارة الأجداد) المغلقة ما نشعر به من (أمل) لنردد مع الشاعر: (فالغصن ينبت غصناً حين نقطعه، والليل ينجب صبحاً حين يكتمل…).
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here