أرشيف

حفل كوكتيل

المصدر

يحدثنا إليوت في مسرحية «حفل كوكتيل» عن لونين من القلق يعانيهما الرجال، يتمثلان في خوف فقدان شيء ما أو الإحساس بتوقع هذا الفقد، فالرجل الغليظ الطبع قد يعاني من خوف فقدان قدرته الجنسية، فإذا رق طبعه قليلاً، عانى من خوف فقدان القدرة على أن يحب ويصبح محبوبا، وشغل ذلك الخاطر نفسه فدفع به إلى تجارب يثبت لنفسه من خلالها أنه ما زال قادرا على أن يكون عاشقا ومعشوقا. لكن هناك نوع ثالث من خوف الفقد يعاني منه الفنانون وهو خوفهم من اضمحلال قواهم الإبداعية، فكثيرا ما تعترض الفنان أوقات تطول أو تقصر يحس بنفسه خلالها عاجزا عن الإبداع حتى ليصبح كل شيء في نظره صامتا هامدا، وحتى لتصبح أدواته الفنية من نغم أو ريشة أو قلم جافية كسولة، كأن لم يكن بينها وبينه ألفة وطول صحبة. وكثيرا ما يستسلم الفنان لهذا الخاطر وبخاصة بعد زوال فورة الشباب الأولى أو موسم الخصوبة الفنية المجانية، فيقطع ما بينه وبين الفن، ولعل هذا هو ما جعل إليوت – في مقال نقدي له – يقول إن قليلاً من الشعراء هو من يستطيع أن يظل شاعراً بعد الخامسة والعشرين، إذ إن هذه السن هي منحنى الحرج في حياة الشاعر، فعليه لكي يظل شاعراً بعدها أن يبذل لونا من التنظيم النفسي والوجداني يعينه على الاستمرار ومواصلة العطاء، ففي هذه السن أو حولها تجف المصادر الذاتية للانفعال أو توشك على الجفاف وتخبو، والنار اللاهبة الأولى التي أنضجت الإنسان لكي تجعله شاعراً، ويحتاج إلى نار هادئة جديدة لكي يجعل من الشاعر الموهوب منتجا وخصبا في مستقبل أيامه. فالشاعر عندئذ في حاجة إلى التحول عن النظر الداخلي أو ما يطلق عليه بعض نقادنا الآن جرياً وراء مصطلح علم النفس – الاستبطان الذاتي- إلى النظر الخارجي في الكون والحياة، والتجربة الشعرية عندئذ جديرة بألا تصبح تجربة شخصية عاشها الشاعر فحسب بحواسه ووجدانه، بل هي تمتد لتصبح تجربة عقلية أيضاً تشمتل على محاولة لاتخاذ موقف من الكون والحياة. وكثيرا ما نقع أسرى الفهم الضيق لكلمة «التجربة» التي هي بدورها مصطلح نقدي حديث لم يجر على ألسنة نقادنا القدماء، فتتصور أن مدلولها هو التجربة العاطفية الشخصية وحدها، مع أن التجربة بالمعنى الفني والفلسفي قد تعني كل فكرة عقلية أثرت في رؤية الإنسان للكون والكائنات فضلا عن الأحداث المعاينة التي قد تدفع الشاعر أو الفنان إلى التفكير، وهي بهذا المعنى أكبر وجودا وأوسع عالما من الذوات وإن كان مجال عملها هي هذه الذوات. ومثل كلمة التجربة في المجال الفني والفلسفي كلمة «الحدث» Event فلا يعني هذا الحدث ما قد يحدث حدوثا ماديا في مظاهر الحياة نحونا، أو ما قد نعيشه من تغيرات الحياة المختلفة في مظهرها المادي فحسب، بل قد يمتد ليشمل الأحداث الوجدانية والفكرية التي تواجهها عقولنا وأذواقنا، لذلك فلن تجد شاعراً، يستحق هذا الوصف قد واصل عطاءه بعد هذه السن الحرجة إلا وقد استطاع أن يهتدي إلى منابع جديدة لإلهامه الشعري تتجاوز سورته العاطفية الأولى إلى آفاق جديدة من رؤية الحياة والإنسان بعامة، سواء في ذلك من أقطاب الشعر في عصرنا بريخت أو إليوت أو أراجون أو غيرهم، على اختلاف زوايا الرؤيا التي يتبنونها، ولعل صمتا جليلاً مثل صمت رامبو في أواخر القرن الماضي، كان مرده أن النار اللاهبة قد خمدت، بينما لم تستطع النار الهادئة أن تنضج الشاعر الدؤوب. ويدفعنا هذا للحديث عن علاقة الشعر بالفكر ومن البديهي أن نقادنا العرب القدماء لم يعطوا هذه العلاقة حق قدرها، حتى ليوشك معظمهم أن يخرج المعري العظيم من دائرة الشعر لميله للفكر، وحتى ليقول أحدهم «إن المتنبي وأبا تمام حكيمان، والشاعر البحتري»، لأن بعض أبيات الحكمة تتناثر في شعري الأولين بينما يخلو منها شعر ثالثهم، فإذا شارفنا مطالع العصر الحديث وجدنا عند بعض شعرائنا تهافتا على تضمين شعرهم بالأفكار الفلسفية يتمثل ذلك عند الرصافي والزهاوي والعقاد، فهم يذهبون في فهم العلاقة بين الفكر والشعر إلى حد الشطط حتى لتوشك منظومات بعضهم أن تصبح صياغة منظومة لبعض الأفكار الشائعة في مجالات الفلسفة بل والعلم التطبيقي، لقد خدع بعضهم ما يقال عن فلسفة جوته أو فلسفة هايني فظنوا أن هذه الفلسفة هي بسط الأفكار النظرية المجردة، خالية من لحم الحياة ودمها، وطمحوا إلى مرتبة الشاعر الفيلسوف إذ ظنوها أرفع مكانة من مرتبة الشاعر المغني، والواقع أن علاقة الشاعر بالفكر لا تنبع من إدراكه لبعض القضايا الفكرية بل من اتخاذه موقفاً سلوكياً وحياتيا من هذه القضايا، بحيث يتمثل هذا الموقف بشكل عفوي فيما يكتبه، فمما لا شك فيه أن الشاعر إنسان أولاً، وهو بهذه الصفة الأولى يعيش وينفعل ويفكر ويعمل وتتكون له من خلال هذه المستويات المختلفة من الحياة بنية بشرية تختلف عن غيرها، وهو في مرحلة الإبداع الفني ينظر في ذاته ليرى من خلالها الكون والكائنات، فلابد عندئذ أن تتحول التأثرات الفكرية المختلفة إلى دم يجري في أوعية نفسه، وهذه التأثرات ساخنة باطنية كالدم لا يراها الإنسان إلا إذا سالت على الأوراق. ينبغي أن يتمثل الشاعر أفكاره لتتحول في نفسه إلى رؤى وصور كما يتمثل النبات ضوء الشمس ليتحول إلى خضرة مظللة وزاهية، فالشاعر لا يعرض آراء ولكنه يعرض رؤية.
وقد نبعت من إثارة قضية علاقة الشعر بالفكر قضية الذاتية والموضوعية في الفن، ولا أعرف قضية استطاعت على زيفها الشديد الواضح أن تفرض نفسها فترة ما على الحياة النقدية مثل هذه القضية، حتى لقد جرؤ بعض النقاد على استعمال كلمة «الذاتية» في معرض التهجم والخصومة للأعمال الأدبية، وجعلوا الموضوعية هي المعادل الأكيد للجودة والصواب.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here