ثقافة

الموت يغيّب عميدة الأدب العربي سلمى الخضراء الجيوسي

المصدر

الموت يغيّب عميدة الأدب العربي سلمى الخضراء الجيوسي

غيّب الموت الشاعرة والأديبة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي القامة والأدبية والوطنية الكبيرة والتي غادرتنا في رحلتها الابدية وهي تخلف تراثًا زاخرًا بالعطاء فهي شاعرة ومترجمة وباحثة ومناضلة وطنية فلسطينية بالكلمة والموقف. شهدت لها الساحات الأدبية في الوطن وفي بلاد الاغتراب وحملت ثقل مشروعها الاخير باحثة عن شهادات الناس العاديين موثقة الاحداث الفلسطينية لنشرها في موسوعة مترجمة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. لتثبت على طريقتها حق الفلسطينيين الطبيعي والتاريخي في وطنهم فلسطين.

ولدت سلمى الجيوسي في مدينة السلط بالأردن في 16 نيسان/ أبريل 1925 والدها صبحي سعيد الخضراء. والدتها أنيسة يوسف سليم. زوجها برهان كمال الجيوسي. ابنها أسامة، وابنتاها لينة ومي.
وكانت سلمى الطفلة الأولى لأب فلسطيني من صفد وأم لبنانية من جباع الشوف، وعُرفت منذ صغرها بالذكاء الحاد.
درست الابتدائية في مدرسة "المأمونية" بالقدس وفي المدرسة الحكومية بعكا، والثانوية في كلية شميدت للبنات بالقدس.

وكانت مدرستها الأثيرة بين جدران البيت، فوالدها من المحامين الألمعين والمؤمنين بأن الثقافة درب النجاح، ووالدتها من أرفع بنات جيلها علماً ومعرفة، فكانت تروي لابنتها أحداث الماضي، وتحدثها عن جدها يوسف سليم وبراعته كطبيب، وعطائه الإنساني، ومطالعته الروايات العالمية، وكانت أمتع السهرات حين يرويها لأولاده في ليالي الشتاء. وتكبر الفتاة وتقرأ الروايات نفسها وتعشق الأدب.

درست في الجامعة الأميركية في بيروت الأدب العربي والأدب الإنكليزي، ثم عادت إلى القدس وعلّمت في "كلية دار المعلمات".

تزوجت في سنة 1946 برهان الجيوسي زميلها في الجامعة في قسم العلوم السياسية، وهو أردني من أصل فلسطيني، وكانت أولى مهامه الدبلوماسية في القنصلية الأردنية بالقدس حتى سنة 1947، ثم شملت تنقلاته روما ومدريد وبغداد ولندن. واندمجت سلمى في المشهد الأدبي وخصوصاً في بغداد، عاصمة الشعر العربي في الخمسينيات، وأصدرت ديوانها "العودة من النبع الحالم" (1960).

استقرت الأسرة في مطلع الستينيات في بيروت حيث كان للمشهد الأدبي خصوصيته، وكان هناك جدل بين مجموعتين متضادتين من الأدباء، حملت مجلة "الآداب" لواء المجموعة الملتزمة بالقضايا القومية وبالتراث الأدبي العربي مع تشجيع التجديد في الشعر، وحملت مجلة "شعر" لواء شعر الحداثة وأدب الحداثة والفكر الذي يرمي إلى ترك القيم الأدبية الموروثة. وشاركت سلمى في الجدل الدائر وكتبت آراءها في كل من "الآداب" و"شعر"، واللافت أنها لم ترفض قصيدة النثر، بل كتبت بإيجابية وعمق حولها، غير أنها رفضت بشدة أن يكون ما توصل إليه حداثيو "شعر" هو آخر التطورات الممكنة، وقالت: "إن هذا الشكل سيصبح يوما شكلاً قديماً لأن كل شيء يتغير".

برزت شاعرة مجددة وناقدة متميزة ومترجمة بارعة، ونشرت أكثر من عشرين مقالة عالجت فيها القضايا الأدبية. واستناداَ إلى آرائها وأبحاثها في الستينيات، كتبت رسالتها الجامعية: "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث"، ونالت عليها شهادة الدكتوراه من مدرسة العلوم الشرقية والإفريقية (SOAS) في جامعة لندن (1970).

عملت في التدريس الجامعي في السودان والجزائر والولايات المتحدة الأميركية. ودُعيت في سنة 1973 من قبل "رابطة دراسات الشرق الأوسط في أميركا الشمالية" (MESA) للقيام بجولة محاضرات في الولايات المتحدة وكندا شملت 22 جامعة، وبقدر ما حملت هذه الجولة من تقدير الأوساط الأكاديمية الغربية لمكانتها العلمية، بقدر ما أدركت سلمى من خلالها مدى جهل الغرب بالتراث الفكري العربي.

نشرت كتابها بالإنكليزية عن الشعر العربي الحديث (1977)، واستمرت في السبعينيات تنشر مقالاتها في العواصم العربية كالقاهرة والخرطوم وتونس والكويت.
دعتها كلية بارنارد في جامعة كولومبيا لإلقاء المحاضرة السنوية العامّـة في سنة 1979، واقترح عليها مدير دار جامعة كولومبيا للنشر التعاون في نشر مجموعة من الأدب العربي الحديث مترجماً، وكان لهذا التعاون الفضل في توجّهها فكراً وعملاً نحو تأسيس مشروع خاص بها للترجمة يهدف إلى نقل الثقافة العربية إلى العالم الناطق بالإنكليزية. وشاهد مشروعها النور في سنة 1980، بالتعاون مع عدد من الأساتذة في جامعة ميتشيغان، وأطلقت عليه اسم "بروتا" Project of Translation from Arabic – PROTA

كانت تتابع أعمال "بروتا" بالتفاصيل، وبالتعاون مع عشرات المترجمين والمحررين والباحثين المنتشرين شرقاً وغرباً، ولم يكن هناك مقر رسمي لمؤسستها، فكانت منازلها في بوسطن ولندن وعمّان بالإضافة إلى الفنادق هي مكان العمل. وباشرت في الثمانينيات من القرن العشرين إصدار الكتب الأدبية الفردية المترجمة التي قامت باختيارها من أروع ما أنتج الكتّـاب والشعراء العـرب الحديثون والقدامى من شعر وقصة ورواية ومسرح. وصدرت أول موسوعة بالإنكليزية قامت بتحريرها وكتابة مقدمتها بعنوان "مجموعة الشعر العربي الحديث"، وتحتوي على قصائد لأكثر من تسعين شاعراً.

دُعيت إلى مؤتمر لند Lund في السويد (1984)، وكانت محاضرتها: "الشعر العربي والشعر السويدي، التماثل والاختلاف" ، وهناك التقت الشاعر أوستِن شوستراند Östen Sjöstrand ، رئيس اللجنة الفنية في أكاديمية نوبل. دعتها الأكاديمية في ربيع 1985 لتعد لها دراسة حول وضع الأدب العربي واستحقاق أدبائه لجائزة نوبل، فلبت الطلب. ولما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل (1988) دعتها الأكاديمية إلى ستوكهولم لحضور حفل توزيع الجوائز تقديراً لدورها.

أطلقت في سنة 1990 مشروعها الثاني: "رابطة الشرق والغرب" (East- West Nexus)، بهدف عرض الحضارة العربية والإسلامية قديماً وحديثاً بالإنكليزية عبر مؤتمرات أكاديمية شاملة ومتخصصة، ودراسات بأقلام عربية وغربية، من أجل إزالة المفاهيم الخاطئة والآراء النمطية لثقافات العالم العربي/ الإسلامي. وكانت البداية كتابها الشامل حول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، الذي صدر في سنة 1992 ولاقى ترحيباً أكاديمياً كبيراً. وبنجاح مماثل نشرت في سنة 2009 كتابها الموسوعي: "حقوق الإنسان في الفكر العربي: دراسات في النصوص"، وفيه البراهين على عمق التراث العربي الفكري في حقوق الإنسان في مراحل تسبق اهتمامات الغرب بها.

صدر عن "بروتا" و"رابطة الشرق والغرب"، خمسين مجلداً وكتاباً تقريباً، منها أحد عشر مجموعة "موسوعية".
ألقت عشرات المحاضرات وافتتحت المؤتمرات في شتى العواصم والمدن، وخصوصاً في بلدان أوروبا والأميركيتين، كما في البلدان العربية المشرقية والمغربية والخليجية.

حصلت على عدد كبير من حفلات التكريم والدروع والجوائز تقديراً لإنجازاتها المميزة، ومن مصادر التكريم: منظمة التحرير الفلسطينية (1991)؛ مؤتمر الخريجين العرب الأميركيين AAUG (1996)؛ وزارة الثقافة في الكويت (2002)؛ المجلس الأعلى للثقافة في مصر (2006)؛ وزارة الثقافة الجزائرية (2007)؛ جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز (2008)؛ الجامعة الأهلية في عمّان (2009).

كتب عنها الكثيرون، ومما قاله ستيفان شبيرل Stefan Sperl، أستاذ الأدب العربي في جامعة لندن: "أعجبت كثيراً بقدرتها على رؤية ما وراء الأسباب والتجزيئات والادعاءات وتمييزها للصوت الداخلي الحقيقي في العمل الأدبي… إن هذه القدرة المتميزة على الإحساس المتعددة الجوانب تكمن في اللب من كل الإبداعات التي تقدمها وتجعل منها أحد الكتّاب الإنسانويين (humanists) في زمننا".

أُطلق عليها: "عميدة الأدب العربي"؛ "مؤسسة ثقافية بحد ذاتها". ورحلت سلمى الخضراء الجيوسي في عمّان في 21 نيسان/ أبريل 2023.

قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :

غموض حول مصير مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين

مهرجان "الشعر العربي" في الشارقة الإثنين ومشاركة أكثر من ١٠٠ كاتب وناقد و تكريم وندوات

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here