أرشيف

الحداثة إبداع ولا ترتبط بزمن

المصدر

كان الشعر حتى منتصف القرن العشرين صناعة تتوخى «هز» الوجدان والعقل، عن طريق الوزن والقافية من جهة، والذكرى والعاطفة والحكمة من جهة أخرى، وهي نظرة تجعل للشعر مهمة تعليمية أو إخبارية أو وصفية كالنثر سواء بسواء.
إلا أن الشعر فن، والفن لا غاية له غير التعبير الجميل عن الذات في لحظة الكشف والرؤيا، أنه نرسيسي، مجاني، لا عقلي – بمعنى أنه يخاطب العقل ولا يخضع لقوانينه- ومهمته التلقائية الفريدة هي النفاذ فيما وراء الظواهر المتناقضة المشوشة المبهمة ليكشف بالحدس والرؤيا أسرار الوجود الحقيقي المليء بالانسجام والنظام والمعنى، وهو يتوسل إلى ذلك اللغة. ولذلك كان الشعر لغة، أي وليد مخيلة خلاقة لا تعمل عملها الفني إلا باللغة، وهي في الشعر شكل ومضمون معا، فلا انفصال بينهما في عملية الخلق ولا تغليب أحدهما على الآخر، ولا خضوع إلا لطبيعة العمل الفني الذي يفضل حريته، يكره التشويش والفوضى. على أساس هذا المفهوم الجديد نشأت حركة شعرية ثورية في الشعر العربي لحقت بالشعر المعاصر في آداب الشعوب الأخرى، وأعطت نتاجا أصبح للمرة الأولى عالمي الصفة، بل عالمي المستوى أيضا، فسماها بعضهم حركة الشعر الحر، وبعضهم حركة الشعر الحديث، وآثر بعضهم الآخر تسميتها بحركة الشعر الجديد، باعتبار أن الحداثة في الشعر العربي ظهرت تباشيرها منذ مطلع هذا القرن عند شوقي ومطران، مرورا بالرابطة القلمية وجماعة أبولو والمدرسة الرمزية اللبنانية، وسواء هذه التسمية أو تلك، فالحداثة في الشعر هي المحور الذي يدور عليه نقد الشعر المعاصر، فما هو تعريف هذه الحداثة؟ ألا نتلمس بتعريفها المعالم التي رسمها الشعر العربي في السنوات الأخيرة؟
الحداثة في الشعر إبداع وخروج به على ما سلف، وهي لا ترتبط بزمن، فما نعتبره اليوم حديثا يصبح في يوم من الأيام قديما، وكل ما في الأمر أن جديدا ما طرأ على نظرتنا إلى الأشياء فانعكس في تعبير غير مألوف، وقد يكون ذلك من نصيب البعض دون البعض الآخر، فنرى بين شعراء المرحلة الواحدة سلفيين وحديثين معا، فما يسمونه عمود الشعر إنما هو خصائص اكتسبها الشعر في مرحلة ما من مراحل تطوره، بتطور نظرتنا إلى الحياة وكيفية معاناتها، لكن هذه الخصائص تصبح عند السلفيين أحكاما ثابتة، وعند الحديثين المبدعين عرضة للتغيير والتعديل، فكان امرؤ القيس مثلا حديثا في نظر السلفيين من أبناء عصره، وكذلك عمر بن أبي ربيعة وأبو تمام وأبو نواس وابن الرومي وخليل مطران وشعراء الرابطة القلمية، وسواهم من المبدعين في هذا العصر.
والحداثة في الشعر لا تمتاز بالضرورة على القدامة فيه، ولكنها تفترض بروز شخصية شعرية جديدة ذات تجربة حديثة معاصرة. وهذه التجربة فريدة تعرب عن ذاتها في المضمون والشكل معا، فلا تنتظم أفكارا ومعاني في الذهن، تحشد لها الصور الخارجية والألفاظ البيانية، بل تخاطبك بوداعة الطفل وشغف المؤمن وحرارة العاشق وتواضع الواثق من نفسه، وتنتصب أمام عقلك ووجدانك بكل فرادتها وبكل وحدتها في حضرة المغلق والمجهول والمتناقض، وبكل تعاستها في انتظار العابر والآتي، وبكل انكساراتها وانتصاراتها في وجه الحياة والموت، وهذا لا يتاح للشاعر إلا بالألم الكياني الرائع، كألم الولادة، فإذا أنت أمام خلفية فنية متكاملة لا تطيق منك العبث بحرف منها، ولا أنت تجرؤ على أخذها بعنف، فهي كالحقيقة الساطعة المتجلببة بثوب يتلألأ ببياض الجدة الذي لا عهد لك بمثله، تظللها غمامة التراث، فتخرج منها دعوة صارخة إلى عالم جديد. ومهما قيل في الحداثة يظل القول الأهم فيها أنها في كل شيء لا في الشعر وحده، موقف كياني من الحياة في المرحلة التي نجتازها، فهي ليست أشكالا يقتبسها الإنسان، أو زيا يتزيا به، لأن المهم هو ما وراء الأشكال والأزياء. هذا الماوراء هو ما نسميه بالعقلية، فإما أن تكون ذا عقلية حديثة، أو لا تكون، بمعنى أن تأخذ بالجوهر لا بالمظهر، وما السيارة والطيارة والتلفزيون وما إلى ذلك من نتاج العلم الحديث، جوهر الحياة الحديثة اليوم، بل الأخذ بأسبابها الروحية والعقلية، ومن أهم هذه الأسباب الاعتقاد بأن الإنسان سيد الطبيعة، وأن بمقدوره إخضاعها وفك مغاليقها، ومنها أن ما يضعه الإنسان من نظم وقوانين ومبادئ يظل دون الإنسان لا فوقه، فما هي سيدته، بل إنما هو سيدها، فهو الذي وضعها لخيره أو هكذا اعتقد حين وضعها، وله ملء الحرية في تعديلها أو تغييرها ساعة يعتقد أن خيره في هذا التعديل أو التغيير. ومن هذه الأسباب أيضا ولعله أهمها أن صيرورة الأشياء بمقام كينونتها، نقول ذلك عالمين أن الكينونة هي الأصل، فالشيء يكون أولا ثم يصير، لكن صيرورته في جوهر كينونته، وهو يصير دون استشارتنا ونحن نكون غير حديثين، أي سلفيين جامدين متزمتين مغلوبين في آخر الأمر حين نقف في وجه صيرورته، نقف لا عن حكمة وتدبير بل عن جهل أو نفاق أو منفعة شخصية، أو إيمان بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
والخلاصة أن الحداثة في الشعر لا تعتبر مذهبا كغيره من المذاهب، بل هي حركة إبداع تماشي الحياة في تغيرها الدائم، ولا تكون وقفا على زمن دون آخر، فحيثما يطرأ تغيير على الحياة التي نحياها فتتبدل نظرتنا إلى الأشياء، يسارع الشعر إلى التعبير عن ذلك بطرائق خارجة على السلفي والمألوف، فالمضامين والأشكال تمشي جنبا إلى جنب، لا في الشعر وحده بل في مختلف حقول النشاط الإنساني أيضا.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here