أرشيف

واقعية ابن خلدون.. الحسين ويزيد نموذجا

المصدر

خصصت مقال الأسبوع الماضي للحديث عن الفلسفة الواقعية لصاحب المقدمة، أبي زيد، عبدالرحمن بن خلدون؛ وقلت إن ما يميز واقعيته تسلحه بقناعات راسخة رسوخ الجبال، قناعات آتية من أنه لا مكان للمعجزات التي انتهت بنهاية النبوة، وأن من أراد التعامل مع الطبيعة، أو الاجتماع البشري، فليأخذ بسننهما. ولقد أتيت في المقال على نموذج من واقعية ابن خلدون، أورده في المقدمة، وكان عن «المهدي المنتظر»، إذ قال عنه إنه لن يظهر، إن ظهر، هكذا مجردا من العصبية، بل لا بد له من عصبية تنصره، وإلا فلن يستطيع أن يفعل شيئا!
ولقد نستطيع أن نزيد واقعية ابن خلدون وضوحا عندما نتحدث عن موقفه من قضية لمّا تزل تشغل حاضر المسلمين، سنتهم وشيعتهم، كما شغلتهم في الماضي، وستظل تشغلهم في المستقبل، إن لم يحسموها ضمن نظرة واقعية، كتلك التي دشنها ابن خلدون، قبل ما ينيف على ستمائة سنة. هذه القضية، التي قال فيها ابن خلدون رأيا مخالفا إجماع المسلمين في شأنها، وخاصة الشيعة منهم، بكافة فرقهم، تتعلق بمسألة ثورة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما على الحاكم الأموي حينها: يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
منذ البداية، سنجد أن الشيعة بكافة طوائفهم لا يمكن أن تعثر من بينهم على من ينتقد الحسين بن علي على توقيت خروجه على الدولة الأموية، وهو مجرد من العصبية، كما هي لغة ابن خلدون، بل لو تجرأ أحد منهم على الاقتراب من هذه التخوم، ولو كان رجلا عاميا، لربما لن يكتفوا بتكفيره، والحكم عليه بسوء المصير، بل ربما مسوه بسوء. أما السنة، وإن كانوا لا ينظرون إلى قدسية الحسين وأفعاله، ومنها خروجه على الدولة مجردا من القوة اللازمة، بنفس النظرة الشيعية، فإنهم أيضا لا يوجهون أدنى لوم للحسين على ما فعله، وإنما يوجهون اللوم، بل والرمي بكل نقيصة، إلى يزيد بن معاوية، لقتل جيشه الحسينَ وأهل بيته في موقعة كربلاء المشهورة.
جاء ابن خلدون، في القرن الثامن الهجري، وشمس الحضارة العربية آخذة في الأفول، بنظرية جديدة تدعو إلى التعامل مع الطبيعة والاجتماع البشري بقوانينهما فحسب، دون انتظار معجزات وكرامات لن تحدث أبدا. فبعد أن أثنى على الحسين بن علي، وبأن يزيد «متعين فسقه»، عاد ليقول إن مثل هذا الخروج، أي خروج الحسين على يزيد، يتطلب توفر شرطين، هما «القدرة والشوكة»، وأن هذين الشرطين متلازمان، وهذان الشرطان يمثلان بلغة عصرنا «الشروط الذاتية والموضوعية». ثم يحلل، أي ابن خلدون، مدى توفر ذينك الشرطين عند الحسين، فأما الأهلية، أي الشروط الذاتية، فكانت عند الحسين «كما ظنَّ وزيادة»، «وأمّا الشوكة فغلط يرحمه الله فيها». يقول ابن خلدون ما معناه إن فضل الحسين وأهليته ليس موضع شك، وأما إن كان يعتقد أنه كان مؤهلا لقتال يزيد، دون أن تكون لديه عصبية، أو قوة تحميه، فهي غلطة منه، لأن الحكم حينئذ للشروط الموضوعية، ولقد كانت في صالح يزيد بن معاوية.
لماذا لم يكن الحسين مؤهلا لقتال يزيد؟
لأن الحسين لم يكن يملك قوة مادية توازي قوة جيش يزيد، ولأن «عصبية مُضر كانت في قريش؛ وعصبية قريش في عبد مناف؛ وعصبية عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس، ولا ينكرونه، وإنّما نُسي ذلك أول الإسلام، وبعد انقطاع أمر النبوة والخوارق المهولة، تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد، فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم».
الحسين بن علي هُزم أمام جيش يزيد، لأنه لم يكن مؤهلا من الناحية المادية لمجابهته، هذا هو السبب ببساطة، كما يقول ابن خلدون، ولم يكن بالإمكان حينها هبوط معجزات، أو كرامات على الحسين، رغم فضله، لتنقذه من قبضة جيش فتاك!
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here