أرشيف

همٌ مشترك

المصدر

وكالمعتادِ لم أتعكز على بديهيات الأمور التي أخذت منا الكثير وأصابتنا بعناء وهلاك. لكن كيف؟ وهي التي تضجرُ ما بين الحين والآخر وتتذمرُ جاعلةً من البيت مكاناً للقذع اليومي وملهاةً لاستفحال الشؤم والعويل الذي أقفر بيتنا، وجعله مثاباً ليُتم الفرحةِ وضراعتها، هذا هو صباحُ زوجتي (سعاد) الذي جعلني حانقَ المزاج متجرعاً من البؤس أنفاساً، محاطاً بالقسوة وتعقيدٍ بالتفكير. لم تكن سعاد أكثر رخاءً في بيتنا الجديد الذي أدركنا به ثلاثة أشهر ونيفاً على الرغم من مساحته الفارهة قياساً عن سابقه، فضلاً عن وجود بيوت أقاربها الذين ملئ بهم الشارعُ المطلُ على سوقٍ شعبي مزدحم، هذا ما زاد من حميمية المكان وجعله أكثر بهجةً في احتواء الملل، إلا أنها مازالت بتوترها اليومي وثرثرتها الواجبة، هذا ما زاد من سيمفونية التأوه الصباحي التي جعلتني ضنيناً في فعلتي هذه، وكأنه عمل موضوع لا يقبله الدين، هذا وقد أرغمني الحال بأن أجتبي راحتي بالخروج من المنزل والتجوال ما بين أروقة السوق القديم، لربما لزحام المتبضعين، وحشر نفسي معهم قادني بأن أنسل من هذا العذاب اليومي للخلاص من مهاترات زوجتي العنيدة التي تتهكم صباحاً ومساءً.
صباحٌ آخر والفجوة تتسع في البيت..
استيقظت في تمام الساعة الثامنة صباحاً، امتثلت إلى الحمام بعدما أطلقت عنان صوت الراديو، غسلت وجهي بالماء لإزالة سكرات النوم، حلقت ذقني، تسللت قدماي إلى المطبخ لتحضير الفطور، وأنا أنادي بصوتٍ عالٍ: سعاد.. سعاد.. ولكن لا حياة لمن تنادي، علماً أنَّي متيقنٌ من عدم اكتراثها لمناداتي، مما أثار انزعاجي وعدم بقائي في البيت تأهباً لحدوث معركةٍ متوقعةٍ يكون أبطالها نحنُ.
سعاد.. يا سعاد.. وهو ينظر إليها مليّاً، لم تنهض مبكراً كعادتها (يا ألله)، ما الذي تفعله زوجتي في البيت؛ هكذا كان يتمتم السيد (أحمد) الرجل المكيث، والمعلم المتقاعد الذي أقُعِد عن عملة التدريسي لبلوغه السن القانوني، متحسراً على نعمة الدوام المدرسي الذي يبتعد من خلاله عن مزاج زوجته ولو لنصف اليوم. في هذه الأثناء دق جرس الهاتف الموضوع على المنضدة، مما ساعد على استيقاظها بعونٍ منه، وهي ترمي بجملها الرنانة (من الذي أزعجني في هذا الوقت وبتكرارٍ مرٍ يستحيل إلى صراخ).
– السيد أحمد: الساعة التاسعة صباحاً.. يا امرأة وهل هو وقت محظور الاتصال فيه؟ صوت الهاتف أبلغ وقعاً بالأذن من صوتي.. عجيب! هذا ما كان يختلج في قرارة صدره وهو في غاية الغضب ملتزماً فسحة المنزل للجلوس على كرسيه المعتاد، فضلاً عن إيقانهِ بنوايا زوجته غير المطيعة ربما هو السبب الأبلغ في إشعال فتيل النار بالبيت.
– هلا:
– نعم.. من؟ وهي تتمغط محاولةً إزالة غشاوة النوم
– أنا وليد يا أمي
– نعم يا بني
– صباح الخير يا أمي
– صباح الخير يا حبيبي
– هل أنتِ نائمة؟
– نعم
– وكيف حالكما؟
– ليس على ما يرام
– ولماذا يا أمي؟هل أنتِ مريضة؟ وكيف حال والدي؟
بدأت سعاد تسرد شكواها وتذمرها المعتاد من السيد أحمد، بعدم اكتراثه لها، وانكماشه على نفسه، وانعزاله عن الآخر خاضعاً لرغباته المتمثلة بالحديقة المنزلية والمكتبة، منصاعاً لكلتا الرغبتين، غير متودد لمن حوله في البيت، بل الأكثر من هذا لم يبادلني الكلام على مدار اليوم، وكأني جارية تستسمح عطفه، أو ترجو نواله. أخذ وليد على عاتقه تهدئتها وتصبيرها، علّها تخفف من حدتها، على الرغم من أنَّه يعرف حال أمه وما عليها من مأثور سلبي مردوده بالغ الأثر، المهم نجح وليد هذه المرة من تغيير حال والدته للأحسن وانتهت المكالمة بتأدية فرض الوداع.
لم يفت وليد أن يشهد ما بين الحين والآخر المهاترات التي تحصل في البيت، إلا أنَّه كان سرعان ما يستدرك الحالة بالتراضي حفاظاً على صفو العائلة على الرغم من إيقانه الشديد من مشاكل أمه المفتعلة، وهذا السبب الأوفر حظاً من عدم عيشه معها وزوجته في مكان واحد، إيثاراً منه بألا يعصيَ الله من خلالها.
وهذا هو ديدن المعلم المتقاعد السيد أحمد بعد إكمال الفطور وقراءة الأخبار التي تعج بها صفحات الصحف المحلية والعربية، يلتجئ إلى حديقة المنزل قبل توثبه للسوق الذي أصبح فرضاً رسمياً غير قابل للاستهلاك، فيسقي وروده ويزيل ما هو ضارٌ من النباتات، فضلاً عن إزالة الدغل من الثمر واستحصال الجيد منه، علَهُ يزيل الغمامة السوداء التي مازالت موصولة النث بلسان زوجته، ناهيك عن استحسانها للناظر. وبعد الانتهاء من أعماله اليومية التي يؤديها على أتمِّ وجه وبنهم واعتناء شديدين يهمُّ بالخروج من المنزل للذهاب إلى السوق ليرى عامة الناس من صغير وكبير من كلا الجنسين، هذا ما جعل من السوق موئلاً لجميع شرائح البشر. يرى الحاج إسماعيل بائع الزبيب الذي يزيد عمره على السبعين عاماً وهو موصول العمل بدون مللٍ أو كلل، فيحييه بتحية الصباح ويردفه بمثلها مصحوبةً بابتسامة وقورة، يرى بائعة الخضروات (كرجية) التي تعلن عن بضاعتها بصوتٍ مثير للانتباه، فيتسمر نحوها برهة ثم يتهادى بخطواته الهادئة، يرى مجنون الحي الذي سرعان ما يطلب المساعدة من أي وافد يشرع بالدخول إلى السوق، فيجدّهُ مما أنعم الله عليه، يشاهد الدهشة التي ارتسمت على وجوه الأطفال لازدحام مخيلتهم لكل ما هو جديد وهم يمتثلون لخطى أمهاتهم المكللات بالوجع، يلفت نظره أغلب الرجال الذين يصطحبون أولادهم ما بين أروقة السوق لمرات عديدة ولا يتبضعون، وأخيراً يتفيأ حكايات الناس في مقهى متداعية الأركان مفعمة بأوجاع الناس وهمومهم ينسجم معهم ويبادلهم التحيةَ برزانةٍ ووقار. يجلس بعضاً من الوقت ليتناول الشاي بمزاجٍ غائرٍ وفكرٍ متشظٍ وهو يسرح بالجمل الأخيرة التي أودعته إيّاها زوجته، إلى أن تمد به قدماهُ إلى جوف السوق وهو حاد النظر مسرفٌ بالتحديق إلى ما حولهُ من المارة بقلب مكلوم:
يا ألله لماذا أنا هكذا؟ لماذا لا ترفل زوجتي بالنعمة التي أودعنا إياها الله عز وجل؟ فيبلغ بالسيد أحمد الحنق مداه والضجر حاجته، فما إنْ التفت إلى أحد الأطفال الذي كان كثير اللغو وهو يسحب يدَ أبيه اليسرى إيذاناً منه بالرجوع إلى البيت، ولكن سرعان ما أردفه والده بجملة أرغمتهُ على قبول الواقع (التزم مكانك يا ولد لا نذهب إلى البيت ما لم تزل مكائد اللغو عن والدتك). ابتسم السيد أحمد كثيراً مغّيراً وجهته إلى البيت إيماناً بحتمية القدر، وأنْ لا مفر منه أبداً.

ميثم الخزرجي – العراق

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here