ثقافة

مواقع التواصل تسحب بساط العناية بـ«خير جليس»

المصدر

بقدر ما تسجّل التقنية الرقمية حضورها في حياتنا، تفرض عادات وسلوكيات حادثة بمعطياتها الأحدث، وباجتياح الأجهزة الذكية أوقاتاً وأمكنة، اضطُرَّ «مثقفون» للتخلي عن أدبيات تقليدية راسخة، وانسابوا مع الصرعات المسوّقة ولو ترتب على ذلك حرق المراحل، وبما أن علاقة البشرية بالقراءة من الكتب توطدت طيلة قرون، فمن اللافت أنه منذ اقتحام عالم الصوت والصورة لليوميات، وزيادة وسائل البث المرئي، وإتاحتها فرص التواصل عن طريقة غير القراءة والكتابة، تراجعت ساعات القراءة أو تضاءلت عن السابق، في ظل استعاضة بعض الشغوفين بالخلوة مع خير جليس، بمتابعة النوافذ المستجدة، والاكتفاء بما تطرح الميديا، وهنا نستطلع آراء عدد من المعنيين بالشأن الثقافي لنتعرف على أثر «الرقمنة» على وقت الاطلاع والبحث، وهل زاحمت الألواح الذكية، القراءة وغدت ضُرةً لها؟ أم سحبت البساط منها؟

تؤكد الناقدة الدكتورة رائدة العامري أن قضيةً كهذه تثير الكثير من النقاشات والآراء، إذ هناك من يرى أن مواقع التواصل ثقافة بلا محتوى؛ كونها أصبحت تنافس الكتب والمصادر التقليدية بسرقتها وقت النخب المثقفة. وترى العامري أن من الممكن النظر إلى الجانب الإيجابي للموضوع، من زاوية ما أحدثت التقنية ومنصات التواصل من مرونة إيجابية لخدمة الأدب والثقافة. وتذهب إلى أن النخب المتعلمة المثقفة أكثر حكمة في استخدام التكنولوجيا ومواقع التواصل، فهي لتوسيع دائرة المعرفة ونشر المحتوى الثقافي بشكل أكثر فاعلية لولادة قراءة جديدة ومناقشة الأفكار الثقافية، وفقاً لإستراتيجيات منهجية وبوضع أهداف واضحة ومناسبة في حدود زمنية، لتبادل الأفكار دون إخلال بعهد الالتزام بالقراءة، لافتةً إلى أن الاستخدام الذكي للتكنولوجيا يسهم في اكتساب المعرفة، ويتطلب الوعي والقدرة على ضبط الاستخدام وتحديد الأولويات.

فيما أوضح الشاعر أسعد الجبوري، أنه عقب أن تحررت الكتابة من الرقابة وأمزجة محرري الصحف والمجلات في العالم العربي، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بمثابة مكاتب ومنازل وملاجئ لكلّ من لم يجد طريقاً إلى تأسيس عالمه الخاص به. وقال: أنا أتحدث عن الآداب والفنون، والكتّاب والشعراء والروائيين والفنانين التشكيليين وكلّ من له باع في الإبداع أو لكلّ من اختار أن يكون من فئة الخلّاقين أدباً وفناً وثقافة بشكل عام.

ولفت إلى أنه لا يُستنكر دخول ملايين من العبثيين الطارئين على مختلف المهن، ليست الأدبية وحسب، إنما المهن الحرة كالحلاقين والطباخين والخياطين والنجارين والألوف المؤلفة ممن يخوضون الليل والنهار بعروضهم عن أشياء الحياة وبضائع الدنيا. ولم يخفِ الجبوري أنه أتاح الوقت المستقطع على الـ«فيسبوك» كلياً، لإدارة صفحته الشخصية الخاصة بنشر أعماله وكتاباته اليومية، إضافة إلى صفحات عدة منها: الثعالب (موقع للسرد الروائي)، وموقع الإمبراطور، وموسوعة بريد السماء الافتراضي، و«كتالوج» موقع خاص بالفنون التشكيلية، والممحاة، ومختبر اللغة، وكائنات الحرب، وموقع تاء التأنيث المتحركة، وصفحة نانو، وموقع الزمن الموسيقي السينمائي، وموقع الدليل الأنطولوجي الذي يضم بين طياته أعمال الشعراء العرب عبر نصف قرن من الزمن.

وأكد أنه يحاول التفاعل مع القارئ العربي لتأسيس رؤية للشعر وللحداثة بشكل خاص، بالاعتماد على الحوار وضخ المعلومات والمعارف الخاصة بكلّ ما يرتبط بالموضوع الثقافي، مشيراً إلى أنه ربما يختلف مع الآخر بالنظرة إلى الشعر الذي لا يراه شركةً استثماريةً تُلَبّي رغباتَ هذا القارئ أو ذاك، ليكون شريكاً في التأليفِ أو رقيباً عليه، كون الشاعر حين يهيمن على اللغةِ بطاقةٍ تصويريةِ عالية وباذخة، فهو يفتحُ أمام القارئ بابَ الفردوس الأحمر، ليحوز التَلَذَّذْ بسحر الخيال وموسيقى المجاز ومشتقاته النارية، عقب الاحتكاك بالكلمات التي تَفيضُ بكلّ ما هو فاتن في المعنى، وكذلك بالمَدّ الاختراقي الذي لا جَزْرَ بعدهُ في روح اللغة.

وعدّ الجبوري وقته فضائياً، ما يفتح أبواب الذهن لصياغة مشاريع أدبية أو العمل بطاقة المخيّلة لاختراع ما لم يكن مخترعاً من قبل، كما هو شأن بريد السماء الافتراضي الذي ضمّن ما يقارب 248 حواراً مع الشعراء الموتى، ويصفها بـ«ضربة ساحر».

فيما يتفق الناشر صالح البيضاني مع القول إن مواقع التواصل الاجتماعي سحبت البساط من الوقت المخصص للقراءة بالفعل، وحازت الوقت المخصص لمشاهدة التلفاز، واقتطعت قسماً كبيراً من حيز المتابعات الإخبارية للمنصات الإلكترونية؛ التي أصبحت أو كادت تكون الشكل الجديد للصحافة، في ظل تراجع الاهتمام بالصحافة الورقية.

وأضاف البيضاني: وعلى غرار ما فعلته المنصات الإلكترونية بوسائل المعرفة التقليدية ومنها الصحيفة والكتاب، استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي استقطاع مساحة أوسع من نطاق الاهتمام الكلاسيكي بوسائل المعرفة، وبتنا نشاهد كيف أصبحت تلك المنصات مساحة لتبادل الأفكار ونشر النصوص القصصية والشعرية، والمساجلات النقدية ما يوجب التسليم بما يفرضه الواقع والاستفادة من كل مُتاح.

ويؤكد الشاعر زكي الصدير أن صفحات التواصل الاجتماعي في بداية انطلاقها شكلّت عبئاً حقيقياً على وقت القراءة الشخصي لديه، في الفترة الزمنية منذ 2008 وانتهت بأفول ما سُمّي بالربيع العربي. وأوضح الصدير أنه عقب تلك الفترة لم تعد الصفحات كما كانت، فلا توقظ فيه أي حضور أو متابعة، وعاد شيئاً فشيئاً إلى عالمه ومكتبته وأفلامه وكتاباته كما كان قبل 2008.

ويرى أنها -وللأسف- لم تنتهِ تماماً من يومياته إلا أنها أصبحت مجرد قطعة صغيرة في آلية المعرفة الثقافية الهائلة، لا سيما عقب تسيّد منظومة التفاهة عبر دفع السطحيين من المشاهير والممثلين والمهرجين إلى الواجهة من خلال ترسانة المتابعين وتعالي أصواتهم أمام الأصوات الثقافية الحرة والرصينة.

فيما كشف الكاتب مجذوب عيدروس أنه يقوم بتقسيم اليوم، فعقب صلاة الفجر يخصص وقتاً لفتح الجوال للرد على بعض الرسائل، ومثله في المساء، لافتاً إلى أن مجمل ما يستهلك في الحالتين لا يستغرق نصف الساعة فيما برنامجه القرائي يمضي كما كان مخططاً له، ولا يخصم من زمن القراءة أكثر من نصف ساعة.

فيما قال الشاعر الدكتور أحمد يحيى القيسي: لستُ مثالياً، ولكن أوقات القراءة والكتابة في الغالب ثابتة لدي، ولا أشغل نفسي فيها بأي شيء يلهيني، خصوصاً استعمال تطبيقات الهاتف. ولا ينكر القيسي أن مواقع التواصل، استولت على معظم ساعات أنشطة الحياة الأخرى، «وربما يتفق كثير من الكتاب معي في هذا الرأي».

ويذهب الشاعر فتحي عبدالسميع إلى أن القراءة بالنسبة له هي قراءة الكتب، فلا يقرأ على الـ«فيسبوك»، مشيراً إلى أن «فيسبوك» أخذ الوقت المخصص لقراءة الجرائد ولم يأخذ الوقت المخصص للكتب، موضحاً أنه يدخل «فيسبوك» كما يدخل المقهى، إلا أن الإشكال في اتساعه، فما إن يدخل يتورط بتدوين كلمات العزاء أو التهنئة.

وأكد أن سقف التواصل الاجتماعي كان محدوداً جداً وصار بلا نهاية، إذ نادراً ما كان الكاتب يلتقي بالقراء، فيما أغلب قراء الكاتب حاضرون الآن على «فيسبوك» ولا يجب عليه تجاهلهم خصوصاً في المناسبات. وعدّ «فيسبوك» متاهة إلا أنه ضروري بالنسبة، ففيه يعلن عن أخبار كتبه ونشاطاته المختلفة، فيما كان قبل «فيسبوك» يتلهف على خبر في جريدة وكان الصحفيون يتحكمون في من يظهر، وبعض منهم كان فاسداً، في ظل عدالة بدرجة ما. ويرى «فيسبوك» «متاهة لا يمكنني الاستغناء عنها»، ولهذا يحدد لنفسه وقتاً، نصف ساعة في الصباح ونصف ساعة في المساء، ويتجاوز الموضوعات الطويلة، ولكنه بدخوله دون تحديد وقت يضيع، ويخسر الكثير من وقته وغالباً ما تنتهي جلسته بإحباط.

فيما يكشف الكاتب السوري شاهر نصر عن محاولته تنظيم وقت العمل والقراءة والراحة ليصبح وقت التواصل جزءاً من وقت راحته، وليس جزءاً من وقت القراءة والعمل. وأضاف: لهذا لم أشعر أن وقت القراءة تقلص، بل ازداد لأن الفضاء الإلكتروني فتح أمامي آفاقاً ومصادر جديدة وتساؤلات جديدة.

فيما يرى الشاعر محمد آل حمادي أنها تستقطع من وقت القراءة، إلا أن إرادة التركيز على نوعية المتابَعين ومستواهم الفكري والإبداعي يجعلها بنسبة مرضية جزءاً من القراءة ومتابعة الجديد، خصوصاً في منصة «فيسبوك». وعدها مصدراً مهماً لمعرفة الإصدارات الجديدة، ويرى لها فضلها الكبير في تعرّفه وقراءته لعدد من المبدعين المختلفين في الشعر والقصة والفلسفة والترجمة، على المستوى المحلي والعربي، مما لا يمكن أن تقدمه المكتبة ولا الصحافة بالسرعة والمواكبة ذاتها، ويؤكد أن للكتاب حقه علينا في إدارة الذات والوقت لصالحه.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here