أرشيف

مهر الكلمة خواطر من السجن الأول

المصدر

شرف للكلمة لا إهانة، أن تحظى بالمطاردة.. نصيبها منذ أن عرفت كيف تتكلم ! إن اختبارها في كلمات قليلة هو: أن تسر الأصدقاء، وأن تغضب الأعداء.. وفي وطني أغضبت كلمتنا الأعداء.. وبتعبير أدق أخافتهم ! ومن هنا ليس مهما السؤال: أيهما أعطاها هذا النصيب القديم – الجديد: قوتها هي أم ضعف أعدائها ؟ لأن الجواب واحد على أية حال.
ما دام الأمر كذلك، ليسمح لي، إذن، أن أعتبر حكاية سجني محاولة خائبة للجم كلمتي.
وليسمح لي أيضًا أن أتعمد بماء شرف كوني أحد الذين يجردون الكلمة في معركة الحب الذي هو جوهر جميع أشكال النضال وقلب الحياة.. لأن هذا الحب الذي لا خجل في الحديث عنه هو الذي يمنحني إنسانيتي.. وشيئًا اتفقنا على تسميته بالفخر لكوني إنسانًا.
ولأن هذا الحب المرتكز على فهم الطريق وماهية الهدف – واضحًا كان تمام الوضوح أم غامضًا بعض الغموض – قادر على تفتيت كل ما يعترضنا، وقادر على تبريره تبريرًا متفائلاً، وقادر على صبغ العراقيل والأشواك والسجون والقيود بلون الأمل والربيع، ويغير مدلولات الأشياء الناشزة في نظرنا. هكذا مثلاً يصبح السجن بالنسبة لنا عبارة عن «محطة في الطريق»، ويصبح الإرهاب والتعب عبارة عن مهر لأجمل العرائس. وما دام هذا هو الأمر فما همنا إذا ارتفعت جدران السجن أمام الكلمة.. التي هي مفتاح في يد عاشق الحياة !
لائحة الاتهام الشكلية، أدانتني شكليًا أيضًا، لأني خرجت لبضع ساعات من «سجني الكبير» الذي هو وطني فعوقبت بدخول السجن الصغير. ما الفرق إذن بين هذين السجنين ؟
الفرق أكبر من كون السجان متحكمًا في جميع ساعات يومي، مع أن هذا الفارق يحمل شيئًا من الأهمية.
الفارق الأساسي هو: أنني كنت في «السجن الصغير» أسيرًا لا سجينًا ! ومسألة تحول الإنسان إلى مجرد شيء لا أهمية له بل لرقمه كنت أقرأ عنها في الكتب ولكني هنا في عنواني الجديد أصبحت رقمًا في هذه المسألة، وعشتها طيلة شهرين كاملين. وما يسمى هنا بالمساواة بين السجناء يقنعك بإمكانية فقدان بعض التعابير معانيها الأصيلة.. هنا ينام في غرفة واحدة وعلى سرير واحد.. ويربط بسلسلة حديدية واحدة: القاتل والسارق واللوطي والسياسي والشاعر !
وأخطر من ذلك كله أمر الأسير. فإن الشعور بأنك أسير.. أسير في وطنك هو أخطر ما في المشاعر. هذا الشعور قادر على خلق سلسلة من العقد النفسية التي قد تؤدي إلى الكفر بجدوى الحياة والإيمان بعبثها عندما تشعر أنك منفي داخل حدود وطنك. وهذا ما يرمي إليه أعداؤك. والوصول إلى هذه النتيجة هو علامة انتصارهم عليك !
ولكن عندما لا تتوقع علاقة أخرى ممن لا يؤمن بإمكانية بقائه إلا على انتهاء وجودك.. وعندما لا تتوقع من الذئب إلا الافتراس.. وعندما تدرك أن عدوك هو قبل كل شيء، عدو نفسه.. لأنه عدو الحياة، عندئذ ينقلب أمل انتصاره عليك إلى خيبة، ويتحول سجنك إلى «دير» تصلي فيه للحرية صلاة لا كلفة فيها ولا تحفظ ولا مواربة وكأنك تحترفها. ويتحول حبك للوطن إلى نوع جديد من الصوفية لأن فيها الخضوع والقوة والتواضع والكبرياء، وعندها تأخذ الكلمة من الصلاة عمقها لا خنوعها، ويتحول صبرك إلى تحد، وإيمانك إلى روح يسكن في ذراع حرف. وهكذا تعلو على آلام الجرح، وما يحيط بك من سخافات !
1965*
* شاعر وكاتب فلسطيني «1941 – 2008».
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here