مجموعة “بريكس”…مبالغة غير واقعية لدورها أمام “السبع الكبار”
طوال النصف الثاني من القرن العشرين تعايشنا مع فكرة مفادها حتمية انهيار، أو سقوط، الإمبريالية الأميركية، وأن المستقبل للتقدم والاشتراكية، وذلك بفضل، أو بواسطة، رافعة تاريخية تتمثل في منظومة الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي.
المفاجأة، فيما بعد، لم تكمن فقط في سقوط تلك الفكرة، وإنما أيضا في حقيقة أن الاتحاد السوفياتي هو الذي انهار، أو تفكّك، من تلقاء ذاته، أي من دون فعل داخلي أو خارجي، وأن معظم الدول التي كانت متمثلة في تلك المنظومة انحازت نحو الغرب في علاقاتها الدولية، ونحو الديمقراطية- الليبرالية في نظمها السياسية، ونحو الرأسمالية في الاقتصاد؛ بل إن هذه الحيثية الأخيرة تشمل الصين، التي تحولت إلى رأسمالية، بقيادة الحزب الشيوعي.
هكذا، بينت التجربة أن تلك الفكرة كانت نتاج عقلية آيديولوجية مغلقة، منفصمة عن الواقع ومعطياته، ونتاج نزعة إرادوية مبنية على الأوهام، وليس على الحقائق والإمكانيات، وهو ما يمكن ملاحظته اليوم، أيضا، في المراهنات التي تبنى على صعود مجموعة “بريكس” (الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا)، كمنافس للغرب، من كل النواحي، أي في السياسة والاقتصاد، والأمن.
وللعلم، فإن كل تلك المراهنة يعتورها كثير من السلبيات، أو المعيقات. إذ هي، مثلا، تستند إلى صعود الصين وحدها، في العقدين الماضيين، ولا تلاحظ أن مجموعة “بريكس” تلك بالكاد تتدبّر أمورها مع سكان يناهز عددهم 3.2 مليار نسمة، أي أكثر من ثلث عدد سكان العالم. أما روسيا فتخضع لعقوبات مشددة اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا، من قبل الغرب، وهذا يشمل الصين في مستوى معين، ما يشكل عامل ضغط عليهما، وكبحا لنموهما، وأن الهند، وهي ثاني أهم قطب في “بريكس”، هي جزء من تحالف “كواد” مع الولايات المتحدة وأستراليا واليابان.
معطيات الاقتصاد العالمي و”بريكس”
على ذلك، يجدر بنا عرض بعض معطيات الاقتصاد العالمي (وفق إحصائيات البنك الدولي لعام 2021)، لتحديد مكانة، ومساحة، مجموعة “بريكس”، في الخريطة الاقتصادية العالمية، وإزاء الأقطاب الآخرين.
مثلا، بلغ الناتج الإجمالي المحلي لدول المجموعة الخمس نحو 25 تريليون دولار، ما يقارب ربع الناتج الإجمالي المحلي العالمي، في حين بلغ الناتج الإجمالي للدول الصناعية السبع، فقط، 43 تريليون دولار؛ هذا من دون احتساب بيانات الناتج الإجمالي المحلي للدول الغربية الأخرى، أو الحليفة لها، والذي يشمل باقي الدول الأوروبية، والمكسيك وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وأستراليا… إلخ، التي تشكل معا ما يقارب 60 في المئة من الناتج الإجمالي في العالم؛ هذا أولاً…
ثانيا، لعل أهم ما يجب ملاحظته في المعطيات الإحصائية السابقة أن الناتج الإجمالي المحلي للصين يبلغ 18 تريليون دولار تقريبا، وهو ما يعادل 75 في المئة من إجمالي الناتج الإجمالي لمجموعة “بريكس”، إذ إن حصة الدول الأربع الأخرى هي فقط 7 تريليونات دولار تقريبا (3.18 تريليون للهند، 1.8 تريليون لروسيا، 1.6 تريليون للبرازيل، 419 مليار دولار لجنوب أفريقيا).
ويستنتج من ذلك أن المراهنين على صعود مجموعة “بريكس” يستندون إلى الصعود الباهر الذي أحرزته الصين في العقدين السابقين. بيد أن ما يفترض ملاحظته هنا أيضا، أن ذلك حصل في الصين بعد انخراطها في منظمة التجارة العالمية (2001)، وبسبب من حسن استثمارها لمسارات العولمة، وضمنه تكيفها بالتحول إلى ما يشبه “مصنع العالم”، أو في الحقيقة مصنع الدول الغربية، حيث تم نقل الصناعات كثيفة العمالة والملوثة للبيئة إليها، تحديدا في العقود الثلاثة الماضية، إنْ لهروب تلك المصانع إلى حيث الأيدي العاملة الرخيصة (في الدول الآسيوية عموما)، وللتهرب من الضرائب ومن التقديمات الاجتماعية للعمال في بلدانها، وأيضا، في سياق سعي الدول الغربية لإعادة هيكلة اقتصاداتها، وقطاعاتها الإنتاجية لتكييفها مع التطور العلمي والتكنولوجي الحاصل في العقود القليلة الماضية.
ثالثا، في مقابل اللوحة السابقة، يلاحظ من جهة “المعسكر” الآخر، أي الدول الصناعية الغربية، أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأميركية وحدها، وهو يبلغ 23.32 تريليون دولار، يشكل 55 في المئة من إجمالي ناتج الدول السبع الصناعية الكبرى، و40 في المئة من إجمالي الناتج الإجمالي للدول الغربية، و23 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي، وهو يكاد يقارب الناتج الإجمالي لمجموعة “بريكس”.
أيضا، فإن الناتج الإجمالي للدول الست الأخرى (ضمن مجموعة الدول السبع من دون الولايات المتحدة)، يبلغ 20 تريليون دولار، إذ إن أي دولة في تلك المجموعة لديها قوة اقتصادية أقوى من روسيا، التي لا تعتبر من الدول العشر الأولى في العالم، وهي الثالث من حيث القوة الاقتصادية في مجموعة “بريكس”.
أما إذا أخذنا الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، مع دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وكندا وكوريا الجنوبية وتايوان وأستراليا، فهو يبلغ نحو 60 تريليون تقريبا، أو 60 في المئة من حجم الناتج الإجمالي العالمي.
منظمة غير منسجمة سياسيا
وفي حين تبدو مجموعة الدول الغربية منتظمة داخل مجموعة الدول السبع الصناعية، وفي إطار الاتحاد الأوروبي، وحلف “الناتو”، ومجموعات دول “كواد” (الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا)، و”أوكوس” (الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا) و”آبيك” (الولايات المتحدة وكندا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا)، من ناحية النظم السياسية والاقتصادية، بغض النظر عن اختلاف الأولويات والتمايز في السياسات، فإن مجموعة دول “بريكس”، لا تبدو منسجمة من حيث نظمها السياسية، فالنظام السياسي في الصين أو روسيا يختلف عنه في البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، إضافة إلى أن ثمة مشكلات بينية، سياسية واقتصادية، وحول الحدود والأراضي، بين الصين والهند، وبين الصين وروسيا (وبالمناسبة فهذا ينطبق على مجموعة شنغهاي أيضا)، علما أنه لا توجد دولة بين دول “بريكس” أيدت روسيا في غزوها أوكرانيا، ولا حتى في التصويت في الأمم المتحدة، حيث امتنعت عن التصويت لصالح روسيا، التي لم يقف معها سوى بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وإريتريا ونيكاراغوا!
وعدا عن كل ما تقدم فإن دول مجموعة “بريكس”، بما فيها الصين، تفتقد للميزة التي تشتغل لصالح الغرب، والتي تتمثل باعتباره المصدر الأساس لمعظم التطورات العلمية والتكنولوجية في العالم، وفي الحقيقة فإن هذه الميزة هي التي تكسب الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، المباراة الدائرة بين الطرفين، وهو ما نشهد فصوله الآن، أولا، بالنكوص عن الاعتماد على الصين بوصفها “مصنع الغرب”، بالتحول نحو دول آسيوية وأفريقية أخرى، خاصة الهند وفيتنام (وبالمناسبة فإن فيتنام باتت مدينة بتقدم اقتصادها للغرب، ما يفسر انحيازها له).
ثانيا، يمكن أن نلحظ ذلك بمحاولة تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا المتقدمة، وضمنه صناعة الآلات التي تصنع آلات تصنيع أشباه الموصلات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإنفاق على البحث العلمي والتطوير يبلغ في الولايات المتحدة 3.5 في المئة من ناتجها الإجمالي السنوي، في حين هو في الصين 2.4 في المئة، وفي ألمانيا 3.14 في المئة، وفي اليابان 3.26 في المئة، أي إن الولايات المتحدة تنفق سنويا 800 مليار دولار على البحث العلمي (ومثلها موازنة التسلح إذ إن نصيبها نصف الإنفاق العالمي)، في حين تنفق الصين على البحث العلمي نحو 400 مليار دولار، أما باقي دول “بريكس”، فتنفق على البحث العلمي أقل من ذلك بكثير.
مما تقدم يمكن ملاحظة أن الدول الغربية يمكن أن توجد بديلا عن الصين كمصنع، أو كمصدر لليد العاملة، لكن الصين لا تستطيع أن تستغني عن الغرب، لا بوصفه مصدرا للتكنولوجيا المتطورة، ولا بوصفه سوقا لبضائعها الاستهلاكية، إذ إن الدول الغربية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، هي السوق الأساسية لأكثر من 50 في المئة من الصادرات الصينية في العالم، وهذه النسبة لا يمكن أن تعوضها السوق الروسية ولا أية سوق أخرى.
ربما يفيد في هذا السياق عقد مقارنة بين روسيا والصين، لمعرفة واقع دول “بريكس”؛ فبحسب إحصاءات البنك الدولي، كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في العام 2002 نحو 345 مليار دولار، وكان في الصين 1.47 تريليون دولار، أي إن الاقتصاد الصيني كان أكبر من الروسي بثلاثة أضعاف، لكنه في عام 2012 ارتفع في روسيا إلى 2.21 تريليون دولار، في حين ارتفع أكثر في الصين وبات 8.53 تريليون دولار، أي إن النمو كان في الصين أكثر منه في روسيا بمقدار أربعة أضعافه، أما في عام 2021، فقد تراجع الاقتصاد الروسي إلى 1.8 تريليون دولار، في حين ارتفع في الصين إلى 18.7 تريليون دولار، بحيث بات عشرة أضعاف الاقتصاد الروسي، ما يعني أن الاقتصاد الروسي في حالة جمود، أو نكوص، في حين أن الاقتصاد الصيني في حالة صعود، وهذا يحصل رغم الميزات التي يفترض أن روسيا تتمتع بها إزاء الصين، فمساحة روسيا 17 مليون كلم مربع، وهي تستحوذ على ثروات طبيعية هائلة.
القوة التصديرية مقياس لقوة الدول
ثمة مقياس آخر يمكن الاسترشاد به في قياس قوة الدول، ضمنها حساب القوة التصديرية للدولة، ومثلا فإن قيمة الصادرات السلعية والخدمية لمجموعة “بريكس”، بلغ عام 2021 نحو 5 تريليونات دولار، منها 3.55 تريليون دولار للصين وحدها، أي إن حصتها أكثر من الثلثين، والباقي للدول الأربع الأخرى، في حين بلغ بالنسبة للدول الغربية (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكندا، وأستراليا 15 تريليون دولار)، منها 12.25 تريليون دولار لدول الاتحاد الأوروبي، و2.56 تريليون دولار للولايات المتحدة الأميركية وحدها، وذلك من أصل 28 تريليون دولار، ما يشكل أكثر من نصف الصادرات في العالم؛ علما أنه لا يوجد سوى الصين، من دول “بريكس” في إطار الدول العشر الأولى في العالم من حيث القوة التصديرية، والتي تضم على التوالي: الصين، الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، كوريا الجنوبية، هولندا، فرنسا، إيطاليا، المملكة المتحدة، كندا. أيضا، ثمة فارق كبير في مستوى المعيشة، أو مستوى الدخل، فهو بين 12 ألف دولار في الصين أو روسيا، و45 ألفا- 70 ألفاً من الدولارات في الدول الغربية، وذلك بسبب الفارق في عدد السكان.
إضافة إلى كل ما تقدم فإن الولايات المتحدة الأميركية تهيمن على النظام الاقتصادي الدولي بحكم هيمنة عملتها في المبادلات التجارية الدولية، وباعتبارها العملة التي يجري على أساسها تحديد قيم السلع والخدمات، وحتى الذهب، وينبع ذلك من قوة الاقتصاد الأميركي، والضمانات القانونية التي تتعلق بالملكية الخاصة، والنظام الحر، والآليات الميسرة للتعامل والتبادل بالدولار الأميركي، داخل الولايات المتحدة وخارجها، وهي ميزات يصعب التغلب عليها في المدى المنظور، ووفقا للمعطيات الدولية، والاقتصادية السائدة، الأمر الذي ينعكس في عدم قدرة أي دولة أو مجموعة على إحلال عملة أخرى، غير الدولار، فهذا لم تستطعه عملة الاتحاد الأوروبي (اليورو)، ولا يبدو أن اليوان الصيني، أو أية عملة أخرى تقرها دول “بريكس”، ستستطيعه، في المدى المنظور وفي المعطيات الراهنة، ويكفي أن كل التعاملات بين بعض الدول بالعملات المحلية (اليوان، أو الروبل مثلا) يتم المقايضة معها على أساس تسعيرتها وفقا للدولار.
أيضا في سياق المفاضلة بين محوري “بريكس”، بخاصة كما يتمثل في الدولتين المتحكمتين فيه، أي الصين وروسيا، وبين الدول الغربية، سيما المتمثلة في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، ثمة فرق في نوعية الحياة، وحقوق المواطنة، وضمنها حرية الرأي، والمشاركة السياسية، وكذلك في النظام السياسي، في شأن الفصل بين السلطات، وتداول السلطة، والنظم الديمقراطية، وتلك كلها ميزات في صالح النظم الغربية، مع الأخذ في الاعتبار الثغرات أو السلبيات التي تعتورها، وضمنها تآكل مستوى التقديمات الاجتماعية، وسلامة المسار الديمقراطي.
ثمة مشروعية لتوليد نظام دولي جديد، ولنزع هيمنة أي دولة على العالم، في السعي لإيجاد عالم مبني على التكافؤ والاعتماد المتبادل والعدالة والقيم الإنسانية، لكن ذلك يفترض توفر المعطيات والإمكانيات المناسبة، وإدراك أن أي تجمع، أو أي طرف، لا يستطيع فرض هيمنته بواسطة القوة العسكرية، فقط، ولا بسبب عدد السكان، أو حيازة ثروات باطنية ما، على أهمية كل ذلك، فذلك يحتاج، أيضا، إلى قوة المثل، وإلى حيازة وسائل القوة السائدة في العصر، وهي في عصرنا هذا تتمحور حول العلوم والتكنولوجيا.
ماجد كيالي