أرشيف

قصيدة الباباي

المصدر

في أحضان شجرة اليقطين تلقفت روحه ضحكات الوادي والذُرة الحمراء فشمر ذراعيه ورفعهما إلى فم السماء بتعز، هزه المطر والتف حوله كأغنيات العيد، واتسع صدر أشجار السدر لمزيد من العطر، وبدا (رعد) شاعراً صغيراً تُلهمه ينابيع (وادي الرسن)، وتُواعده الأحراش، وتدغدغه أوتار سنابل (الموجر) بصوتها الطروب، (والشاعر سر يا ولدي)، هكذا هاتفه جده في منام الأمس.
يطوف برأسه بين الزروع، الرقصة الأولى برفقة أشجار التمر الهندي، والثانية هناك حيث يرى الأصوات ولا يسمعها! حيث تتلبس الصغير عواطف عشقية، ويمشي على واجهة البيوت المُتلاصقة كلوحات زيتية التفت حول قد القرية.
الفقر لا دموع له، تشتد قساوته ولا يتفجر منه الماء، وصاحبنا صغير فقير ابن الحادية عشرة، إخوانه أوطانه، وأوطانه في قلبه منحوتة مدى الحياة.
إخوانه ثلاثة توائم يُشكلون نصف قصيدته، ونصفها الآخر لأمه وأبيه اللذين فقدهما في القصف.
مياه البيت آسنة، والشاعر طفل صغير تنحره عذابات الشعور، ولا نجاة من المُر إلا بالشعر! وكيف يأكل اليتامى الكلمات؟
لم يكن الباب موصداً عندما ماتت الأم، وتركت ثلاثة أفواه تُعلن قدومها إلى الدنيا.
شاح (رعد) ببصره ناحية الوادي، باح قلبه للطبيعة بكل شيء.
كان الوادي أباً كونياً، تترنم عائلته عشقاً في المساءات والصباحات، كانت خُطاه رشيقة تُمجد الخيال وتزيل غبار الغد عن عين الصغير.
ضاع خوفه وصار مكعبات ثلجية عصفت بها حارة النهار.
أفنان الشجيرات تحيك قصائد تقول: تعز! والطير يرمي الأناشيد في قلب أذنيه، والجبال جنوبها وشمالها تنسدل من الأعلى ويكون انعكاسها وجهه.
سدد الشعر طعناته بلُطف، واستحال (رعد) شاعراً مُحملاً بهموم قريته وجمالها الذي يطلي القلوب بألوان القصيدة المُلهمة.
غاصت روحه في صوفية السحابات، كنت تراه هائماً مُحباً لذرات الهواء، يجلس على الأحراش في حضرة الغروب، يدنو بحميمية من الأرض ليسمع ماذا تقول؟ صوت قصائده كان مكتوماً وحقيقياً يُداعب الأسماع بغرابة موسيقى الشلال.
الإخوة الصغار مازالوا صغاراً، والكلمات كيف يأكلها اليتامى؟!
يمر الوقت ولا تنتابه حسرة، وصوت قلبه واثق من غناء الغد.
قبيل أن تخطف الحقول لُبه راسمة شفاه الشفق الحمراء الندية بالأُفق، سعل أحدهم في قبضة يده، كان شيخاً متلففاً بالقماشات المزركشة، حاجباه سميكان، ورموش عينيه بيضاء، يغمز دائماً من دون أن يقصد.
انقطعت أغاني الوادي فجأة، مس الشيخ يد (رعد) بخفة وأشار نحو ينابيع وادي الرسن واختفى في حقول الذُرة.
دق (رعد) الأرض، ومضى هانئاً باتجاه الينابيع، شعر بأن الكلمات نبتت على شفتيه، خزن صورة الوادي بعينيه ثم أغمضها، رأى فيما يراه النائم ظل العجوز يُلوح له بثمرة وورقة.
أغرق السحر كيانه، أخذ جسده النحيل يتمايل يمنة ويسرة كمن تحركه السماوات بخيوط غير مرئية، وطرأ على عقله أن يهبط من الأعلى ويفتح عينيه.
أطرق (رعد) صامتاً كالحالم، فغر فاه ولمع قاع عينيه وكأن النجوم فيها، أحلم ما يراه؟ أم أنه الحقيقة بذاتها؟ هل أمطرت السماء بكل هؤلاء الناس؟

أميرة الوصيف – مصر

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here