أرشيف

فلسفة كانط تتفق مع المنهج السلفي

المصدر

عند الحديث عن العقلانية والتنوير فأول اسم يتبادر لأذهاننا اسم الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط، فنحن نتحدث عن أهم الفلاسفة العقلانيين في تاريخ الفلسفة الغربية ورمزا بارزا من رموز التنوير. أفكار كانط تمثل انعطافة في تاريخ العقل الغربي، فالفلسفة الغربية قبل كانط ليست كما هي بعد كانط، فكل التيارات الفكرية التي جاءت بعد كانط ليست في الحقيقة إلا تفرعات من فلسفته، فمنظومته الفلسفية بمنزلة المصب الذي يتفرع إلى عدة اتجاهات هو الأصل لها.
قامت فلسفة كانط أساسا على نقد العقل البشري وتفكيكه وبالتالي معرفة حدوده وقدراته، أو بشكل مباشر، فإن فيلسوف التنوير كانط أسس من خلال فلسفته النقدية إلى بيان قصور العقل وعجزه بمختلف الطرق والأدلة، ووضع الإثبات العقلي أن من طبيعة العقل البشري العجز عن إدراك الوجود في ذاته، وكل ما يتجاوز حدود عالم التجربة فإنه يخرج عن دائرة العقل البشري، فالعقل محكوم بالعالم الذي تدركه الحواس ومحدود بحدوده. أي أن كانط من خلال فلسفته التنويرية العقلانية يعتزم تضييق دائرة العقل ليفتح الطريق أمام الإيمان. بحيث لا يبقى في إمكان العقل والفلسفة التدخل في العالم الروحاني وأن يقتصر نشاطهما على العالم المادي، وعلى هذا الأساس قامت نظريته النقدية في المعرفة.
رفضت نظرية كانط النقدية كل التيارات الفكرية التي تكلف العقل فوق طاقته، والعقل بطبيعته متى اجتاز الدائرة الحسية عجز وتخبط ووقع في المغالطات والأخطاء وأدى إلى مزاعم لا أساس لها. وكانط لا يلغي النزعة الفطرية عند البشر للاهتمام بعالم ما وراء الطبيعة والوقوف موقف عدم الاكتراث من مشكلات وجودية تتعلق بمصير البشرية، ولكن العقل سوف يعجز في النهاية عن الوصول لأحكام مطلقة لأنه سرعان ما يجد نفسه وجها لوجه أمام الحدود النهائية للمعرفة البشرية. في مقابل ثنائية «الميتافيزيقا والعالم التجريبي» عند كانط هناك في الخطاب السلفي نجد ثنائية «عالم الغيب والشهادة» وباختصار بحسب التعبير السلفي، فإن العقل لا يمكن أن يتدخل في عالم الغيب، وإنما تلك الدائرة من مختصات حقل الوحي والنص الصريح والإيمان به؛ لذلك يعد تقديم النقل على العقل من مسلمات المنهج السلفي. ونستطيع القول أن فكرة تقديم النقل على العقل، وتحديدا في المسائل العقدية، لم تكن اعتباطية بل كانت مسبوقة بفهم عميق لحدود المعرفة البشرية وإمكانيات العقل.
يقول هنري لوزيير أستاذ التاريخ في جامعة نورث وسترن في كتابه صناعة السلفية: «ترفض السلفية كل أشكال التأمل اللاهوتي المعروف في اللغة العربية بعلم الكلام. فوفقا لهم، على المسلمين الذين يسعون إلى شرح القضايا الشائكة مثل أسماء الله وصفاته ألا يلجأوا قط إلى الفلسفة أو المنطق الأرسطي أو التفسيرات المجازية (التأويل)، فكلها تشوه معنى النصوص. فالسلف الصالح، كما تذهب حجتهم، لم يستخدموا أبدا مثل تلك الأساليب الملتوية، بل وصفوا الله كما وصف نفسه في الوحي».
لو دققنا النظر في كلام لوزيير، لوجدنا أن المنهج السلفي يعتمد على الجانب اللغوي في فهم النصوص الدينية دون أن يخوض أكثر في تأويلها، اعتمادا على حرفية النص ومتابعة ألفاظه وفق ما يقتضيه اللسان العربي، فالمرجعية الأساسية في المنهج السلفي هي النص القرآني والسنة النبوية وإجماع السلف، والعودة لفهم السلف يرجع أساسا لأغراض لغوية لأن جيل السلف عاصروا حقبة نزول الوحي الذي خاطبهم بلغتهم وبما يدركونه من الأساليب البيانية والتعبيرية، واللغة كما نعرف تتطور وتتبدل على مر العصور، لذا كانت العودة لعصر السلف لازمة لفهم النص فهما سليما دقيقا من خلال معرفة البيئة العربية المادية والمعنوية على حد سواء، فجيل السلف يملكون ميزة لا تتكرر عند أي جيل لاحق، وهي أن القرآن الكريم نزل بلغتهم وخاطبهم أول من خاطب، فالقرآن بيانه عربي وأسلوبه عربي، وفهم مقاصده يتطلب تمثلا كاملا لهذا اللسان العربي، وهذا ما يجعلنا نعتقد أن المنهج السلفي في حقيقته منهج لغوي بامتياز.
السلفية لا تقتصر على تكرار ممارسات السلف وأن نقلدهم في أفعالهم دون زيادة أو نقصان، ولا تعني العيش في ظل موروثات الأجداد بل هي في الحقيقة إعادة قراءة لتاريخ الأفكار تبدأ من بوابة اللغة، وعملية تقييد لخيال المؤرخين على أساس موضوعي. إنها إعادة لرسم خرائط الماضي مع استبعاد أي أدوات غير موثوق بها، فهي لا تدعو للعيش في الماضي ولكنها من خلال العودة إلى المصادر المبكرة للشريعة السماوية تجعل الماضي مقروءا بشكل أوضح.
المنهج السلفي بتقديمه النقل على العقل في المسائل المتعلقة بالعقيدة يشبه إلى حد كبير أفكار إيمانويل كانط في نقده للعقل المحض الذي يمثل حجر الأساس في فلسفته. ونختم مقالنا هذا بحديث هنري لوزيير حول هذه المسألة: «كان الملتزمون بالاعتقاد الحنبلي، نقليين (إيمانيين) وكانوا لا يثقون بشكل عام في أي شكل من النظر العقلي في النصوص يهدف إلى بيان الصفات الإلهية خوفا من أن يؤدي هذا إلى التعطيل أو التحريف أو التشبيه في وحدانية الله وتعاليه، وعلى حد تعبير نادر البزري، اعتقد الحنابلة أن الحالة الأنطولوجية للصفات الإلهية ستظل مخفية، وأقصى ما يمكن للمرء أن يعلمه هو إثبات وجودها على أساس أنها وردت في القرآن».
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here