تقارير

سمرقند تراث لا يضيع

المصدر

من بلاد ما وراء النهر حيث سحر الشرق وأصالته وعبقه تبدأ رحلتنا، وإلى جنة الكور (سمرقند) ستكون وجهتنا تلك المدينة التي تغنّى بها الشعراء وبوصفها فقيل عنها: (كأنها السماء للخضرة وقصورها الكواكب للإشراق ونهرها المجرة للاعتراض وسورها الشمس للأطباق).
تلك المدينة التي رغم عمرها العتيق (2500 عام)، لم تشخ أبداً بل ظلت شابة بحضارتها وتراثها تشع جمال نورها وتجذب الناظرين بأناقة حضورها.
إنها سمرقند المدينة المتحف وعقدة طرق القوافل التجارية القديمة، إنها طريق الحرير الذي ربط بين الصين وأوروبا، إنها ملتقى التجارة والقيم الروحية والعادات والتقاليد الأصيلة لمختلف الشعوب.
سمرقند شمس الحضارة والثقافة التي أشرقت في آسيا الوسطى بأسرها لا تقل شأناً عن بابل وممفيس وأثينا وروما والإسكندرية تلك المدن التي أهدت العالم حضارته وأنارت له ظلمته وكانت له دليله في طريقه. إنها (سمرقند) مدينة الأحداث الصاخبة والمصيرية اهتز لها التاريخ ولم تهتز فكانت مركزاً رائداً للفكر العلمي والثقافي والفني.
تقع مدينة (سمرقند) في بلاد ما وراء النهرين التي تنقسم إلى أقاليم وكور أهمها: الصغد وخوارزم والختل والصغانيان في حوض نهر جيحون وفرغانة واشروسنه واللشاش (طقشند حاليا) وايلاق وأسبيجاب على نهر سيحون.
وتتبع مدينة سمرقند حالياً جمهورية (أوزبكستان) واختلفت الآراء حول مؤسسها فهناك بعض الآراء ترى أنه (كيكاوس بن كيقباذ) وهناك آراء تقول إنه (الإسكندر الأكبر) وهناك من يرى أنه (شمر أبو كرب) ولذلك سميت (شمركنت) وعربت إلى (سمرقند).
وكانت سمرقند عاصمة ما وراء النهر حتى نقل إسماعيل بن أحمد الساماني العاصمة إلى بخارى ومع ذلك ظلت سمرقند أولى مدن ما وراء النهر من حيث الرقعة وعدد السكان، وقد امتازت المنطقة المحيطة بها بخصوبة فوق المألوف جعلت من السهل لعدد ضخم من السكان أن يعيش في هذه المنطقة.
وتعد تلك المدينة من أقدم مدن العالم يقدر عمرها بنحو ألفين وخمسمئة عام، وقد كشفت الحفائر أن أول المستوطنات في أراضي سمرقند المعاصرة ظهر في القرن السابع ق.م في سفوح تلال أفراسياب وبحلول منتصف القرن الأول ق.م أصبحت المستوطنات الصغيرة ذات أسوار محصنة وقوية كما كانت تضم عدداً غفيراً من الصناع والحرفيين.

الناحية التاريخية
مر فتح إقليم ما وراء النهر بعدة مراحل استغرقت عشر سنوات من -86 96هـ/705 715-م وذلك على يد القائد (قتيبة بن مسلم الباهلي) الذي بسط السيادة الإسلامية على كل ما وراء نهر جيحون واستغرق ذلك ثلاث سنوات توجها (قتيبة) بضم درة التاج (مدينة سمرقند) أعظم مدائن الإقليم التي أمر ببناء المساجد بها وإنزال العرب بها أما بعد مقتل (قتيبة) فاقتصرت جهود الدولة الأموية على امتداد فترتها على خوض معركة تثبيت السيادة العربية والدفاع عن المكاسب التي أحرزها العرب.
وفي العصر العباسي ازدهرت مدينة (سمرقند) ازدهاراً كبيراً خصوصاً في عهد الخليفة العباسي (المعتمد على الله) الذي جعل من مدينة (سمرقند) عاصمة لبلاد ما وراء النهر واستمرت كذلك حتى عهد الأمير (أحمد بن إسماعيل) الذي نقل العاصمة إلى بخارى فصارت المدينتان مركزين حضاريين وازدهرت الحياة الاجتماعية والاقتصادية بهما في عهد الدولة (السامانية) وظلت هكذا حتى خضعت لحكم الدولة الخوارزمية في عهد السلطان (علاء الدين محمد بن تكش) الذي هاجم بلاد ما وراء النهر واستولى على سمرقند عام 606هـ/ 1209م.
أما النكسة الحقيقية التي حلت بمدينة سمرقند هي حين دكت أسوارها (قوات جنكيز خان) فبعد أن خرب بخارى تحرك صوب سمرقند واستخدم الحيلة للإيقاع بها حيث قاد من أهل بخارى جمعاً عظيماً حتى يتصور أهل سمرقند أنهم من جملة جيشه فيفزعون لضخامته ورغم أن هذا الفعل جرى مفعول السحر إلا أن أهل سمرقند لم يسكتوا عن الدفاع عن مدينتهم فأبدوا مقاومة شجاعة لثلاثة أيام وخرجوا في اليوم الثالث من المدينة وهاجموا المغول إلا أن جيوش جنكيز خان قد انتصرت ودخل (جنكيز خان) المدينة في العاشر من المحرم سنة 617هـ/ 1220م وبعد أن خرب قصر الحاكم بها أمر بالقتل والنهب وعامل سمرقند بما عامل به بخارى من قبل كما أسر الآلاف من صناع سمرقند المهرة وفرضت الضرائب الباهظة على من تبقى من السكان في المدينة وأمسى الجزء القديم من المدينة خراباً مهجوراً بسبب تدمير قناة المياه الجارية من قبل المغول إلا أن المدينة وإن اهتزت لهذه المحنة إلا أنها لم تقع بل تجاوزت هذه النكسة وبقيت صامدة على قيد الحياة رغم حاجتها لأكثر من مئة سنة لمحو آثار الغزو المغولي.
وعادت شمس (سمرقند) تشرق من جديد في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجريين (الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين) وذلك في عهد (ألغ بك بن شاهرخ بن تيمورلنك) وأنارت هذه الشمس أرض سمرقند في مختلف المجالات العلمية والمعمارية والفنية ولكن ما لبثت تلك الشمس أن غابت فبنهاية عصر (التيموريين) أخذ نجم سمرقند في الأفول حيث أصبحت مدينة سمرقند مجرد مدينة خاضعة لحكم الشيبانين وتم نقل العاصمة إلى مدينة بخارى.
ولكن على الرغم من ما مر بالمدينة من خطوب، ورغم ما أصابها من انكسار إلا أنها ظلت شامخة بموقعها وآثارها ودورها الذي قامت به على مر العصور التاريخية والذي تعرضه عبر ما تحويه من منشآت معمارية عديدة تنوعت ما بين المساجد والمدارس وقباب الدفن التي تدهش بروعتها وجمالها وتفرد شكلها الناظرين.
الجدير بالذكر أن تلك المنشآت المعمارية على الرغم من تنوعها إلا أنها تتشابه مع بعضها من حيث اشتمالها على العديد من النقوش الكتابية التي وصلت في معظمها أنها كانت تغطي جدراناً بكاملها حيث تبدو تلك الجدران وكأنها لوحة فنية متناسقة أبدع فيها الفنان بالإضافة إلى العديد من الوحدات والعناصر المعمارية المختلفة مثل كل المداخل وأبدان المآذن والقباب ورقابها والإيوانات وواجهاتها وحجرات سكن الطلاب.
وقد اتسمت تلك النقوش بتنوع أشكال الخطوط التي نفذت بها ما بين الخط الكوفي والخط الثلث بالإضافة إلى الخط الفارسي وإلى جانب تنوع أشكال تلك الخطوط فقد تنوعت مضامين النقوش ما بين الكتابات الدينية والتسجيلية والرباعيات الفارسية التي تحتاج للعديد من البحوث والدراسات التي تميط اللثام عنها.
وتنقسم المنشآت المعمارية تبعاً للغرض منها إلى عمارة جنائزية دينية وتعليمية (المدارس).
وإذا تحدثنا عن العمارة الجنائزية فهناك العديد من الأمثلة سنعرض منها على سبيل المثال لا الحصر:

تجمع شاه زنده الجنائزي
يقع تجمع شاه زنده في الطرف الجنوبي من أطلال أفرسياب وسط مقبرة كبيرة ظهرت في نهاية القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) وبداية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) ويعد تيمورلنك هو أول من وضع اللبنات الأولى لهذا البناء ليكون مجمعاً جنائزياً لأفراد الأسرة التيمورية ثم توالت الإنشاءات في الفترات التالية لحكم تيمورلنك. ويضم هذا التجمع عدداً من قباب الدفن لأمراء وأميرات من البيت التيموري بالإضافة لبعض الشخصيات ذات المكانة العلمية والدينية في العصر التيموري. ويتكون هذا التجمع من ثلاث مجموعات العليا والوسطى والسفلى يربط بينهما ممر مستطيل الشكل مكشوف وغير منتظم وتضم هذه المجموعات عدداً من قباب الدفن (الكورخانة) وحجرة الزيارة (زيارات خانة) فضلاً عن المساجد والمدارس.
وهناك أيضاً قبة دفن خواجة أحمد الديلمي (741هـ/1340م).
وتقع هذه القبة في نهاية الدهليز الذي يتوسط المنطقة العليا من تجمع شاه زنده، ولم نستدل على صاحب الأمر ببناء هذه القبة ومن دفن فيها نظراً لندرة ما كتب عن هذه الشخصية في المصادر والمراجع التاريخية فضلاً عن فقد أجزاء من النقش التأسيسي بمدخل هذه القبة.
وشيدت هذه القبة من الأجر جيد الصنعة وتتكون من مساحة مربعة يشغل كل ضلع من أضلاعها الثلاثة داخلة مستطيلة الشكل قليلة العمق في حين يشغل الضلع الرابع كتلة المدخل ويغطي التربيع الأرضي سقفاً مسطحاً وهو في هذا يختلف عن كل قباب المدفن بتجمع شاه زنده من حيث استخدام القباب ذات الأشكال والزخارف المتنوعة في التغطية.

مجمع قثم بن العباس
يقع في الجهة الشرقية من المنطقة العليا بتجمع شاه زنده، ويعد هذا المجمع هو الأساس في بناء التجمع المعماري ككل ويضم هذا المجمع ثلاث وحدات معمارية مختلفة الوظيفة وهي قبة الدفن وحجرة الزيارة والمسجد وتنسب إلى فترات تاريخية مختلفة، فقبة الدفن ترجع إلى ما قبل العصر التيموري في حين شيدت حجرة الزيارة سنة 735هـ / 1334م أما المسجد فيرجع إلى فترة متأخرة نسبياً حيث شيد في سنة 834هـ / 1430م.
أما عن تخطيطه المعماري: فتفضي فتحة المدخل المستطيلة التي يحيط بها إطار مستطيل الشكل من البلاطات الخزفية المزخرفة بالأوراق والأزهار والفروع النباتية بالإضافة إلى النقوش الكتابية إلى دهليز مستطيل الشكل تتوسطه في الجهة الجنوبية فتحة باب مستطيلة تؤدي إلى المسجد.

قبة دفن شيرين بيك أقا
تقع على يمين الداخل إلى المنطقة الوسطى من تجمع شاه زنده الجنائزي وقد شيدت هذه القبة الملكة شيرين بيك أقا (ابنة ترغاي) أخت تيمورلنك لنفسها وذلك سنة 686هـ / 1385م.
ويتكون تخطيطها المعماري العام من مساحة مربعة بكل ضلع من أضلاعها داخلة مستطيلة معقودة بعقد مدبب ذي أربعة مراكز وبصدر كل داخلة نافذة مستطيلة معقودة ويغطي التربيع الأرضي قبة قطاعها على هيئة عقد مدبب القمة وبه تحديب خفيف عند التقاء الخوذة بالرقبة والقبة محمولة على حنايا ركنية مقرنصة تليها رقبة القبة المثمنة التي تضم ست عشرة داخلة مستطيلة ومعقودة وبعضها مصمت والبعض الآخر فتحت به نوافذ مغشاة بالزجاج الملون ويلي المثمن خوذة القبة وهي عميقة ومزخرفة من الداخل بالتذهيب والألوان وللقبة رقبة أسطوانية طويلة مزخرفة بدخلات مستطيلة مغشاة بالفسيفساء الخزفية التي سقط بعضها.

قبة دفن كور أمير
هذه القبة ضمن مجمع كور أمير بحي روح آباد بسمرقند إلى الجنوب من ميدان الريكستان قرب شرسو أو بوابات البخاري أحد مداخل المدينة الستة ولقد أمر (محمد سلطان) حفيد تيمورلنك ببناء هذا المجمع في نهاية القرن الثامن الهجري حيث شيد مدرسة وخانقاه لكن وافته المنية قبل أن يكتمل فأمر تيمور لينك ببناء القبة ليدفن بها حفيده.

قبة دفن ألجي شاد ملك أقا
وتقع هذه القبة ضمن المجموعة الوسطى لتجمع شاه زنده الجنائزي وقد شيدت هذه القبة (قتلنغ تركان أقا) إحدى زوجات (تيمورلنك الأوائل) لابنتها (ألجي شاد ملك أقا) ويرجع تاريخ إنشائها إلى العشرين من جمادى الآخرة سنة 773هـ / 29 ديسمبر 1372م.
وقد شيدت القبة من الأجر جيد الصنعة ويتكون التخطيط العام لها من مساحة مستطيلة الشكل تمتد من الشرق إلى الغرب ويشغل كل ضلع من أضلاعها داخلة مستطيلة الشكل معقودة بعقد مدبب ويغشى الجدران والدخلات الرأسية فسيفساء خزفية بهيئة مساحات مستطيلة ويتوسطها أشكال دوائر بها زخارف هندسية بأشكال مختلفة ويفصل بينها إطارات مستطيلة يزخرفها نقوش كتابية بالخط الكوفي المضفور.
أما فيما يخص العمارة الدينية، فهناك مسجد بيبي خانم (801 – 806هـ / 1398 – 1403م)
وهو يقع في الجهة الشرقية من ميدان الريكستان (أي الأرض الرملية) والذي يتوسط مدينة سمرقند وبالتحديد في شارع طشقند.
وقد شيد هذا المسجد من الأجر جيد الصنعة ويتكون التخطيط العام من مساحة مستطيلة الشكل تمتد من الشرق إلى الغرب تبلغ مقاستها 167×109 يتوسطها صحن مكشوف تحيط به أربع ظلات أكبرهما عمقاً واتساعاً ظلة القبلة ويتخلل تلك الظلات أربع أيونات تقع في منتصف كل ضلع من الأضلاع الأربعة، ويقع خلف ثلاثة منها ثلاث حجرات مربعة كمقاصير خصصت لإلقاء الدروس ويغطي الظلات والحجرات قباب مختلفة الأحجام لم يتبق منها سوى قباب المقاصير الثلاثة.

مسجد تومان أقا
يقع هذا المسجد ضمن مجمع (تومان أقا) الذي سبقت الإشارة إليه من قبل والذي يشتمل على قبة دفن وحجرة للزيارة بالإضافة إلى المسجد.
وقد شيد المسجد من الأجر جيد الصنعة وعلى الرغم من أنه أطلق عليه مسمى (مسجد) كما ورد في النقش الإنشائي إلا أن تخطيطه اقتصر على بيت الصلاة فقط فجاء مستطيلاً تبلغ مقاساته 8.15×8.36 وينقسم من الداخل إلى ثلاثة أقسام رأسية تمتد من الشرق إلى الغرب بواسطة بائكتين عموديتين على جدار المحراب ويغطي الأقسام سقف مقبى منخفض.
وللمسجد مدخل يقع في الجهة الشرقية يفضي إلى الداخل مباشرة تقابله حنية محراب بسيطة.
ولم تقتصر العمارة في مدينة (سمرقند) على العمارة الجنائزية والعمارة الدينية بل أيضاً شهدت العمارة التعليمية (المدارس)، مثل مدرسة ميرزا ألغ بيك.
وتقع هذه المدرسة بالجهة الغربية من ميدان الريكستان في مواجهة مدرسة شيردار، وقد أمر بإنشائها (ميرزا ألغ بيك بن شاه رخ بن تيمورلنك) سنة 820هـ / 1417م.
وتتكون من صحن أوسط مكشوف تحيط به أربعة إيوانات معقودة بعقود مدببة أكبرها عمقاً واتساعاً الإيوان الغربي (إيوان القبلة) ويكتنف الإيوانات حجرات سكن الطلاب (الدرس خانة) في طابقين وهي حجرات مستطيلة الشكل معقودة بعقود مدببة، ويقع خلف الإيوان الغربي مسجد مستطيل الشكل يمتد من الشمال إلى الجنوب يتكون من رواقين تسير عقود بوائكهما موازية لجدار المحراب الذي يتوسط الجدار الغربي ويكتنف المسجد من الجانبين الشمالي والجنوبي حجرة مربعة بكل ضلع من أضلاعها دخلة مستطيلة عميقة ويغطي كل حجره قبة مدببة ذات تفصيصات محمولة على رقبة أسطوانية الشكل.
وهكذا نكون قد أنهينا رحلتنا إلى مدينة سمرقند ونكون قد شاهدنا خلالها تراث مدينة عظيمة لا يضيع وإن غابت شمس التاريخ عن سمرقند وأفلت إلا أنها تركت دفئها في الأجواء نلمسه في أي مكان نتوجه إليه بأعيننا في ذلك المتحف المفتوح الذي تغنى الشعراء بها وبأوصافها.

د.عصام السعيد – مصر

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here