أرشيف

سحيم عبد انقلب على العبودية: عن العنصرية أحدثكم

المصدر

كانوا ينادونه بسحيم تصغيرًا للأسحم والتي تعني السواد، لم تكن عبوديته أو سواده مشكلة له، أو عقدة تكسر نفسه أو تصادر عزه واعتزازه بذاته، في موطن العُقَد حجاز ما قبل الإسلام، حيث الحسب والنسب والمال هي مقومات المكانة ومرتكزاتها.
سحيم عبد بني الحسحاس، وهو شاعر مخضرم، توفي حرقًا على الأرجح نهاية عهد عثمان، بقيت فطرته على أصلها، لم يجتالها كونه عبدا أسودَ يقلب الحروف من شدة عجمته، ليرضى بواقعِ أنَّه دون من هم أسياده فضلًا عن غيرهم، بل بقي ذا أنفة يفعل ما يفعله الأسياد بلا هيبة أو خشية، وانظره وهو يقول:
أشعـار عبد بني الحسحاس قمن له يـــوم الفخار مقام الأصل والورق
إن كـنـتُ عبـــدًا فنـفسي حــــرة كــرمًا أو أسودَ اللونِ إنـي أبيض ُالخُـلقِ
افتكَّ سحيم ذات مرة امرأة من قوم سيده من الأسر، فشكرته واعتذرت أنها لا تجد ما تكافئه به، فراودها عن نفسها كمكافأة فتأبت، فأعرض عنها، وكأنه يأنف أن يطلب طلبًا كهذا فيرد، وهو الذي لا يرى في نفسه نقصًا أن يطلب ما لا يجرؤ على طلبه من هو في مثل وضعه ومركزه.
ظلت علامته المميزة، تغزله بنساء أسياده، والتي قادته في نهاية الأمر إلى الموت حرقًا وهو ثمل، وكأن هذه الصفة هي التي سترتقي به لمصاف من فرَّقوا الناس إلى طبقات، وجعلوا أنفسهم في أعلى طبقة منها، فلم يكن الكرم الذي يتصف به سحيم، ولا الشجاعة التي توشحها شعارًا ودثارًا كافيين ليقارع بهما القوم في السؤدد، وهذه المشاكسة من سحيم، ومنازعة المكانة لنفسه، هما ما ألجآهم في النهاية إلى التخلص منه عن طريق بيعه، فقال:
أشوقًا ولما يمضِ في غيرِ ليلةٍ فكيفَ إذا سارَ المطيُّ بنا شهرًا
وما كنتُ أخشى مالكاً أن يبيعني بشيءٍ وإن أضحتْ أناملهُ صفرًا
أخوكم ومولى مالكمْ وحليفكم ومن قد قوى فيكم وعاشركم دهرًا
كانت هذه الأبيات الرقيقة باذخة الجمال سببًا في أن يعمد قومه إلى رده وإكرامه، وبعد أن بقي فيهم مدة، عاد إلى شغله الشاغل النساء، وأخذ يُشبِّب بنساء القوم، فأجمعوا على قتله حرقًا، فأخذوه وأسقوه خمرًا حتى ثمل، ليقر ويعترف، ثم أُسجر عليه حطب العرفج في حفرة، حتى هلك حرقًا.
هذا هو سحيم الذي هزأ بالعبودية والرق، في زمن كان يرسف فيه تحت أغلالها، ورغم أن هذا الزمان ولَّى إلى غير رجعة، وتخلصت الإنسانية من استعباد الإنسان للإنسان، بشكل مقبول نسبيًا، إلا أنها وقعت تحت أغلال العنصرية، التي توازي العبودية في بعض مواقفها وأحداثها، إذ كانت العبودية في يوم من الأيام السحيقة، أحد أهم الأسباب لعنصرية اليوم في حضارة القرن الحادي والعشرين.
أُلغيت العبودية في كثير من بلدان العالم على مدى القرنين الماضيين، ولكن هناك بلدان ما زالت لا تَعتبر العبودية جريمةً قانونيةً، وتفتقد نصف دول العالم تقريبًا اليوم؛ وجود قانون جنائي يعاقب على ممارسة العبودية أو التجارة بالعبيد، إذ تعاني تلك الدول من فشل في حظر أنواع معينة من الاستغلال البشري في قوانينها المحلية، ومن المحزن حقًا أنه لا يمكن اعتبار أن العبودية غير قانونية في كل شبرٍ من أنحاء العالم، على الرغم من وضوح القانون الدولي في هذه المسألة، والذي يرى أن الاتَّجار بالبشر مؤلفٌ من ثلاثة عناصر أساسية، هي: الفعل، واستخدام الإكراه لتسهيل هذا الفعل، ووجود النية لاستغلال هذا الشخص.
وعلى كل، فإن التمييز ضد الآخر هو امتهان لإنسانيته وتقويضٌ حقيقي لقدراته وإبداعاته. ومعاملته بدونية تعني قتل دوافع الإحساس بجماليات الحياة في داخله.
والعنصرية أو التمييز العنصري تتعدد وتتباين، فهناك عنصرية عرقية، وعنصرية على أساس الثقافة أو الدين أو اللغة، والعنصرية الشخصية التي تتعلق بسلوكيات الناس الخاصة وعاداتهم وتقاليدهم وهي الأكثر شيوعًا، وهذا السلوك العنصري في الغالب ينبع من الاعتقاد بأن المجموعات البشرية يجب أن تعامل وفق مظاهرها، لا وفق جوهرها وما تملكه من قدرات.
وها هنا تساؤلان يفرضان نفسيهما، وهو: ما الأصل في علاقات الناس؟ أهو السلام والوئام والتعاون، أم صراعات الغلبة والسلطة، والبقاء أو الفناء؟!
ثم، ما الذي يجعل إنسانًا أو جماعةً من البشر أو شعبًا من الشعوب، يعتقدون بتميزهم وتفوقهم على غيرهم بلون أو عِرق أو نسب؟!
أجزم أن إجابة السؤال الأول، هي: أن أصل العلاقة بين بني البشر لا تعدو أن تكون السلام والوئام والتعاون، لا غير. وأما إجابة السؤال الآخر فهي: أن هذا الاعتقاد ناتج عن خلل في التفكير والتصور كبير، والمصيبة أن يترتب على هذا التصور المدان سلوك، يتمثل في حرمان فرد أو فئة من حقوقهما، وإلزامهما بواجبات أكثر؛ لاعتباراتٍ متعلقة بالدين أو العِرق أو اللون أو الذكورة والأنوثة، وهذا سلوك مُجرَّم بكل تأكيد.
وعلى صعيد متصل، فقد أكد بعض الدراسات العلمية العلاقة المباشرة بين التمييز العنصري والأمراض العقلية، مثل الأمراض الذهانية، والاكتئاب، وغيرها، وتؤكد هذه الدراسات كذلك، أن الحوادث العنصرية اليومية البسيطة التي يتعرض لها الأفراد، يظهر أثرها على صحة الفرد الجسدية وليس النفسية فحسب، حيث ترتبط هذه الممارسات العنصرية، بتزايد حالات أمراض ارتفاع ضغط الدم، وضعف الصحة العام، وبقاء الإنسان طريح الفراش لعدة أيام، ناهيك عن تسجيل حالات لأشخاص انتحروا احتجاجًا على الأوضاع العنصرية، ومن هنا يجب معاملة العنصرية والتمييز كعامل خطر على الصحة، تمامًا مثل التدخين، فهذه الممارسات العنصرية تتلف الدفاعات الطبيعية التي تستخدمها أجسامنا لتخفيف التوتر، الذي تسببه العنصرية، وبالتالي تجعل الجسم معرضًا للاعتلال.
وأخيرًا، فإن إقصاء الفرد وإعاقته عن تحقيق ذاته؛ من أكبر خطايا البشرية على مر التاريخ.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here