أرشيف

رأس البشرية في الصندوق المضيء

المصدر

د. نسيم الخوري

أمس، كانت الكتابة ابنة حفيف الغابات المطحونة ورقاً جاهزاً للتحبير بعدما هجرتها الطيور منقادة نحو عصر الكتابة الضوئية وفوق ألواح الزجاج، لتأخذنا مثل الأطفال إلى الكمبيوترات المصفوفة فوق المكاتب وفي الأحضان، مروراً بالشاشات التي لا نهاية لأشكالها ووظائفها.

وصارت الدنيا وكأنها عالم مجوّف من زجاج، مشغول بأخبار «كورونا»، وكأنها بعد هذا الموت المجنون لا تساوي قرشاً مثقوباً، قال صديقي.

جرثومة أوقعت البشرية في قاع لا قرار له من الأسئلة والتفكير والعيش والأبحاث المتحيرة في مستقبل المجتمع البشري وعلاقاته اليومية الاجتماعية والعملية، وفي علاقات الإنسان ببيئته الصغيرة والواسعة. الأمر بحاجة إلى فهم حقيقي للتشققات الحاصلة لأنظمة الأرض، وربّما أنظمة الكون البيئية. ينبغي بالطبع على كل منا، الحفاظ على حياته في ضوء المعلومات المتناقضة المنهمرة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تشحننا حيرة وخوفاً وقلقاً في معايشة جرثومة المرض والموت. ولو شئنا الاسترشاد بهذا الكم الهائل من المعلومات والنصائح الطبية المتدفقة، لقلنا إننا أسرى كارثة لم تتضح هويتها، أقامتنا في المجهول بين هائمين في اللحظة بين الموت والحياة.

أخرجُ من هذه الكوابيس المسترخية نحو الماضي الجميل محاولاً النقر فوق شبابيك أجيال داهمتهم الشيخوخة، فأراها تتصرف وتعيش اليوم مثل أجيال الشباب والبنات والأحفاد تماماً، لا يمكن تقسيمها أو التمييز بينها؛ لأنها مقيمة في أسرّتها بين ألواح الزجاج المتنوعة تتخاطب من بعيد، وكأننا نبحث في أسئلة الإغريق حول الكون والوجود والموت.

لن يتذكر اللوح الأسود الحجري إلا من انتمى إلى جيل هرم عتيق اعتاد مثلي صغيراً أن يعلّق بلوحه طبشورة كانت تعتبر أثمن من «إسوارة» الذهب الرقيقة اللامعة في زند أمّه، وقد براها غسيل الأواني والثياب. وقد كانت أمهاتنا تمتلكه بما يضاف إلى قواميس عجائب الدنيا السبع نسبة إلى اليوم.

تلك الطبشورة باقية رمزاً للفقر والقيظ وحسن الكتابة والفهم ورسم أحلام المستقبل وأسس الحضارات. كان الولد يدسّ لوحه الأسود في كيس صغير من القماش الخام وقد خاطته أمه، يعلّقه في عنقه ويعدو صباحاً مسابقاً العصافير والوعورة إلى مدرسته، مفترشاً الحصير للتعلّم تحت السنديانة الهرمة، وخلال الشتاء ينحشر الأولاد في غرفة يشغل زاويتها، موقد دائم الاشتعال لأن كل ولد لا يحمل بيسراه صباحاً، قطعة حطب من سنديان يعود إلى بيت أهله.

اختصر اللوح الحجري المصان بإطار خشبي المساحة الرائعة لأنظمة التعليم واستراتيجياتها في المدارس وتكايا التعليم في لبنان ومعظم البلاد العربية. تبدأ القصة بعلم الحساب والتهجئة والقراءة، وصولاً إلى حفظ جداول الضرب ثم علوم التاريخ والجغرافيا والدين، صعوداً نحو الفلك وفلسفة الإغريق وحتى العلوم المحضة، وصولاً إلى عصر الفضاء.

من يتذكر هذا اللوح الحجري الأسود الذي طلعت عبر صفحته الضيقة أجيال من العلماء والأطباء وأساتذة الجامعات من أبناء العرب.

من نسل هذا اللوح ولد «الآيباد»، حاملاً اسمه الأمريكي العالمي الذي يحفظه الجميع عالمياً من دون الحاجة إلى كتابته بالإنجليزية. يبدو رأس البشرية محشوراً في الصندوق المضيء بثقافات العالم ونصوصه ومنشوراته، ولغاته ولهجاته وصورها الثابتة والمتحركة، وأفلامها وكل أخبارها المتناقضة وفي رأسها «كورونا». إنه الحفيدة الرائعة التي جعلتك لا تسأل أحداً غير «جوجل» حفيد زواج الأذن والعين وقد أنجبت شاشة التلفزيون.

بين اللوحين الأسود والمضيء ثقافات مشقوعة لامتناهية وكأن «الآيباد»، صار أشبه بسلّم تتعانق فوقه القارات الخمس وتتعلّم الأجيال «أونلاين»، واصلاً الأرض بالفضاء، وكلهم يرتقون ولا يتخالطون. أجيال صامتة من مختلف الأعمار مشغولة بكبس أزرار بسيطة لا تتطلب المعرفة؛ بل الخبرة والمهارة اليسيرتين في تحريك السبابات. كلما ارتفعنا درجة ضمرت الأشياء وتم اختزالها في مستوى تغريدات عصافير «تويتر» الزرقاء التي يقلدها رؤساء الدول والبشر وتنشغل بها وسائل الإعلام، بينما تكابد الصحافة المكتوبة لاهثة خلف الحذف والاختزال تصارع تفشّي ثقافات الصدفة والعشوائية والفوضى التي تفرضها عادات النشر والإدمان على «الآيباد» ووسائل القراءة والكتابة المعاصرة.

غداً ستنسحب الأقلام اليابسة والممحاة والمبراة نحو عالم المتاحف أو الآثار. وغداً قد يسأل حفيد حفيدك، مشيراً بسبابته نحو كوب مملوء بالأقلام: ما هذا؟ فلن يسمع الجواب.

drnassim@hotmail.com

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here