أرشيف

خطوط الصـدع في أوروبـا

المصدر

تأليف:ليز فيكيتي
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم

كانت العنصرية موجودة بعمق في الفكر الأوروبي، ولكنها تشهد تنشيطاً بطرق جديدة مثل: الحرب على الإرهاب، والثورة الثقافية من اليمين الصاعد، والشيطنة المرتبطة بالهجرة. وفي هذا الكتاب، تكشف ليز فيكيتي، عن خطوط الصدع الأساسية للعنصرية في أوروبا المعاصرة، مركّزة على القوى المناهضة للديمقراطية وغير الليبرالية، وداعية إلى ترسيخ التعددية الثقافية وتعزيز التعاطف.
يتناول هذا الكتاب الطرق التي يترابط من خلالها اليمين الذي تم تكوينه حديثاً مع القوى المناهضة للديمقراطية، وغير الليبرالية، على مستوى الدول، ويقدم إجابات تشتد الحاجة إليها، كما يكشف عن بعض الحقائق غير المريحة في أوروبا، مثلما يبدو أنها «نقاط عمياء» حول التطرف اليميني من جانب الدولة، والذي يشكل تواطؤاً، من جانب عناصر في أجهزتها الأمنية، بطرق تعيد إلى الأذهان أحلك أيام ماضي أوروبا الاستبدادي.
تقدم فيكيتي مقاربة متعددة الأوجه لفهم صعود السياسيين اليمينيين المتطرفين، مثل مارين لوبان، في فرنسا، ونتائج مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – التطورات التي حيرت اليسار – إضافة إلى العنصرية الكامنة وراء هذه التيارات، وتشير إلى أن الحكومات في جميع أنحاء القارة متواطئة في مجموعة من الحروب الثقافية التي ولدت بسبب انعدام الأمن العنصري، أي المخاوف التي تضخمها وسائل الإعلام، ولا تؤدي إلا إلى تضخيم الخيال الأبيض مع احتمال حدوث «غزو خارجي» من شأنه أن يضعف، و/ أو يقلل من قيمة «الثقافة الأوروبية».
وتستكشف فيكيتي الفاشية من حيث الطرق التي تقارب بها خطاب الجماعات اليمينية المتطرفة مع أولئك الذين هم في قلب السياسة، أي السياسيون البرلمانيون والأحزاب السياسية، مع التطرق إلى أعمال العنف العنصرية، وعلاقتها مع خطاب اليمين.
وبالنسبة إلى النشطاء الذين يناضلون من أجل مبادرات مناهضة للعنصرية ودعم حقوق اللاجئين، يعد هذا الكتاب أداة لفهم الأنظمة المعقدة التي تضطهد هذه الجماعات على نحو متزايد. كما تناشد فيكيتي القراء لأجل الدفاع عن التعددية الثقافية وتعزيز التعاطف، مشيرة إلى أن الفن أداة حاسمة في هذه المساعي.

استجابة عاجلة

وفي مواجهة تحول سياسات الهجرة إلى مسائل تتعلق ب«الأمن القومي»، وتجريم الفقر، وعسكرة حفظ النظام العام، تتطلب «خطوط الصدع» في أوروبا استجابة عاجلة من النشطاء، الأكاديميين والمتعاطفين، والعمل على تنظيم مجموعاتهم تضامناً مع الأكثر تأثراً بخطاب اليمين المتطرف.
تقول الكاتبة: «في ظاهر الأمر، فإن الحقائق بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب، وانتخابات الإعادة الفرنسية التي أعطت أكبر تصويت لمرشح رئاسي أوروبي من اليمين المتطرف منذ الحرب العالمية الثانية، قد اجتمعت بطرق توحي بتقدم مسيرة اليمين الجديد إلى الأمام، أو حتى انتصار الفاشية. لكن لا يُقصد من «خطوط الصدع» في أوروبا إرضاء القراء، أو إخافتهم، بل هو لاكتشاف ما هو محدد حول العنصرية، والشعبوية، والفاشية اليوم، وما يميزها عن الفاشية الكلاسيكية في الثلاثينات؛ من دون أن نغفل أن أوروبا بتألقها الفكري سبق أن احتضنت التقاليد الديمقراطية والمعادية للفاشية بعمق«.
وتضيف: «على الرغم من أنني أتقدم في خطوط الصدع الأوروبية إلى الطبيعة المتغيرة لعنصرية الدولة في وقت تجدد نشاطها، إلا أن هذا لا يعني أنه لا يوجد مقاومة، ولا عصيان مدني. وفي الواقع، يهدف هذا العمل إلى تذكيرنا بأن القيم الإنسانية والقيم المناهضة للفاشية والاشتراكية متجذرة في الثقافة الأوروبية أكثر من الاستبداد».
وفي عام 1991، بعد المذابح المعادية للمهاجرين في هويرسفيردا، ثم في روستوك في ألمانيا، تم النظر لأول مرة في تنسيق سياسات اللاجئين والهجرة في جميع أنحاء أوروبا.
وتشير الكاتبة إلى أنه قد تكون العنصرية القديمة مبنية بعمق في الفكر الأوروبي، لكن أعيد إحياؤها بطرق جديدة عبر مجموعة متنوعة من القوى، مضيفة: «بالطبع أوروبا، القارة التي ولّدت الاستعمار، والإمبريالية، والعنصرية العلمية، وعلم تحسين النسل، وكذلك الاشتراكية القومية، لها تاريخ طويل من العنصرية والاستبداد. إن فهم هذه الحقيقة والاستمرارية التي تنطوي عليها مع ما يحدث اليوم، أمر ضروري. لكن «العنصرية»، كما يذكّرنا أ. سيفاناندان، «لا تقف مكتوفة الأيدي»، وهي تتجلى بطرق مختلفة، في نقاط زمنية مختلفة، من حيث «التغيرات في الاقتصاد، والبنية الاجتماعية، والنظام، وقبل كل شيء، التحديات والمقاومات لهذا النظام». اليوم، تفوق السوق، وكذلك الحرب، هما اللذان يقودان التغييرات في المجتمع ويعيدان تشكيل الدولة».

ظروف مختلفة

ترى الكاتبة أن تحليل «حالة السوق» يساعد في فهم الأنماط المختلفة للعنصرية في أوروبا، إضافة إلى ظهور حركة «أمريكا أولاً» في الولايات المتحدة التي تضم في جوهرها تفوّق البيض، وهيمنتها السياسية والثقافية (مدعومة بقوة الشركات). في حين أن دعم أوروبا للحروب في الشرق الأوسط، والعالم العربي، قد عزز منذ فترة طويلة الإسلاموفوبيا، إلا أن انعدام الأمن الناتج عن عولمة الاقتصاد العالمي، واحتضان الليبرالية الجديدة قد خلقا مناخاً معادياً للمسلمين أيضاً، بطريقة تبدو أشبه بالفاشية الكلاسيكية في القرن ال19 في فترة التنافس الإمبريالي بين الدول القومية.
تختلف الظروف اليوم اختلافاً جوهرياً، حيث إن قوة الدولة القومية قد تضاءلت كثيراً. لكن من الصحيح أيضاً أن الميول النازية الجديدة والفاشية بدأت بالظهور في مناخ خصب باحتضان اليمين النزعة الأهلانية (هي نهج سياسي يقوم على حماية مصالح أهل البلاد الأصليين وتقديمها على مصالح المهاجرين). ومع الوفاء بوعد الحمائية الاقتصادية، وإنهاء حرية الحركة (في أوروبا)، يكاد يكون من الصعب تمييز القوميين عن مناصري العولمة النيوليبرالية عندما يتعلق الأمر بخصخصة أصول الدولة، وتفكيك دولة الرفاه. وتمثل سياسات التفضيل القومي وسياسة الخوف (من غزو المهاجرين، وهيمنة المسلمين المتشددين، وعنف الطبقة الدنيا) الحل الوحيد الذي يوفره اليمين للمجتمعات التي يمزقها الانحدار الصناعي، والحماس النيوليبرالي.
وتبيّن الكاتبة أن الصخب الانتخابي اليميني المتطرف قد يظهر قدرته على التخلص من العولمة، لكن في مرحلة ما يصطدم بجدار من الواقع الاقتصادي. فقد أدى التقشف، بهجومه العدواني على السياسات التقدمية في مجال المساواة والعمل والحقوق المدنية، إلى تسريع التحول في البنية الاجتماعية. هذا ليس من قبيل الصدفة. فالاقتصادات البيئية للتقشف هي وسيلة لتحقيق غاية، من خلال التضامن عن طريق العرق، والطبقة، ما يهدد البنية الاجتماعية التي تعزز الفردية الراديكالية، وإعادة تنظيمها لتلبية متطلبات السوق.
وتنقسم المجتمعات الأوروبية اليوم بشكل متزايد، ففي هذا العالم الأقل ديمقراطية، والأكثر تفككاً، والأكثر انعداماً للمساواة، تم تفريغ الديمقراطيات البرلمانية من مضمونها، لتظهر أنماط جديدة للحكم، التي، من خلال إشراك الجهات الفاعلة في القطاع المدني في تقديم الخدمات الموجهة نحو السوق، تقوض بشكل أساسي المجتمع المدني. وتحكم الدول عن بُعد، حيث تتم الاستعانة بشركات خاصة في مجالات العدالة، والرفاهية، مع تقديم الحوكمة بشكل متزايد عبر شبكات مستمدة من مجموعة من الجهات الفاعلة في القطاع الخاص، والحكومي، والمدني.. مع تخلي الدولة عن العديد من وظائفها، وترسّخ العنف المنظم والشذوذ الاجتماعي في مواجهة تدمير دولة الرفاه.
وتؤكد الكاتبة أن الفاشية ليست مجرد أيديولوجية، أو مجموعة من الأفكار، إنها موقف تجاه حياة الإنسان نفسه. كل هذه التطورات تشكل تهديداً ليس على الحقوق الاجتماعية والمدنية والديمقراطية فقط، ولكن على كرامة الإنسان.

تحسين المعايير الديمقراطية

تنقسم خطوط الصدع في أوروبا إلى ثلاثة أقسام، على الرغم من تكرار بعض الموضوعات والمفاهيم في جميع أنحاء الكتاب. فمنذ البداية، يتم تعريف القراء بمجموعة من الجماعات المعاصرة المعادية للهجرة، والقوميين، واليمين المتطرف، واليمين الأقصى، والنازيين الجدد.
تقول الكاتبة: «إن كيفية تصنيف مثل هذه الجماعات – معرفة، على سبيل المثال، متى يجب تحديد اتجاه ما على أنه يميني متطرف، أو أقصى اليمين، أو فاشية، أو بديل عن الفاشية – هو سؤال محير سيختلف عليه الأكاديميون، والخبراء، والمؤرخون، والناشطون حتماً. لذلك هنا قد تكون هناك ملاحظة حول استخدامي للمصطلحات مفيدة. أستخدم مصطلح «اليمين المتطرف» للإشارة إلى تلك الأحزاب الانتخابية التي هي على يمين الذعر المحافظ التقليدي، خاصة في ما يتعلق باستعدادهم لاستخدام لغة وخطاب عنصريين. في حين أنه قد يكون له جذوره في الأحزاب الفاشية قبل الحرب، أو يشترك في بعض سماته مع حزب عنصري، أو قومي متطرف، أو حتى فاشي. ويكاد يعمل اليمين المتطرف ضمن أطر دستورية، تتضمن جوانب من المحافظة الثقافية وتقتصر في الدعوة إلى العنف ضد معارضيها».
وتضيف: «هذا هو ما يميز اليمين المتطرف عن أقصى اليمين، أو اليمين الأقصى، الذي، مع بعض الاستثناءات الملحوظة، لا يرفض العنف ويرتبط بشكل أكثر وضوحاً مع الماضي القومي المتطرف، أو الفاشي لبلد ما. ولكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار أيضاً أن تشكيل وإعادة تشكيل الأحزاب التي تمت مناقشتها في خطوط الصدع الأوروبية تشبه حركة قطع الزجاج في المشكال، والتي تتخذ أشكالًا جديدة وتشكيلات مع كل منها. ف«حزب البديل من أجل ألمانيا»، على سبيل المثال، بدأ كحزب محافظ متشكك في أوروبا، ولكن يمكن الآن أن يكون موجوداً بشكل عادل داخل عائلة أقصى اليمين. مصطلح آخر يظهر في النص هو «اليمين المتشدد». ويوجد الآن مثل هذا التبادل بين حجج أتباع الأصول القومية والمحافظين الثقافيين والقوميين واليمين المتطرف لدرجة أنني قررت استخدام اليمين المتشدد كطريقة، أولاً، للدلالة على الأنماط الجديدة التي تظهر عندما تكون البرامج الانتخابية المختلفة (تبدو منفصلة) يجتمعون معاً، وثانياً، كوسيلة للتمييز بين أيديولوجية اليمين البرلماني المتشدد وبين التمرد العنيف المضاد لليمين المتطرف خارج البرلمان».
وترى أن ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أيضاً هو السياق السياسي الأوسع والبيئة الأكبر التي تنبثق فيها قوى اليمين المتطرف، قائلة: «نحن بحاجة إلى التساؤل حول الطرق التي تم تدريبنا عليها لفهم الفاشية، ليس على أنها تقارب الانتماءات في أطراف ومركز المجتمع، ولكن باعتبارها مجرد أيديولوجية أخرى للبيع في «سوق التطرف». انتقلت الأحزاب المتطرفة، منذ 1990، من الأطراف إلى مركز المجتمع، وعززت سلطتها على المستوى المحلي، وأقامت قواعد السلطة في الحكومات البلدية والإقليمية في جميع أنحاء أوروبا. إن فكرة التقارب والصلات بين المركز والأطراف، وبين اليمين المتطرف واليمين المتشدد المصمم حديثاً، هي موضوع مركزي للكتاب، كما هو مفهوم التواطؤ. لقد كنت أكتب عن الفاشية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، والشيء الوحيد الذي يحبطني بانتظام هو الطريقة التي يقتصر بها التهديد الذي يشكله اليمين المتطرف وأقصى اليمين على التقدم في صناديق الاقتراع. هذا يحجب حقيقة أن الدول يمكن أن تتواطأ، بشكل مباشر، أو غير مباشر، مع نمو الفاشية».
وتشير إلى أن السياسات التي تنتهجها أذرع القانون والنظام في الدولة – الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية – هي سياسات مركزية. وغالباً ما يُفهم مثل هذا التواطؤ على أنه نشاط سري مؤطر بهدف الإنكار، ويتطلب ثقافة الإفلات من العقاب، ولكنه قد يكون أيضاً نتيجة المنطق الفعال لمؤسسات إنفاذ القانون. ينبغي فهمه بالمعنى الفعلي -«التآمر أو التواطؤ أو التعاون»- وكإخفاق في التصرف – من خلال «غض الطرف»، أو«التظاهر بالجهل»، لما ينبغي «معارضته أخلاقياً، أو قانونياً، أو رسمياً».
وفي أوروبا اليوم، فإن النظام الاجتماعي العنصري، المصحوب بثقافة تجعل «غض الطرف» ممكناً، هو السياق الذي يحدث فيه التواطؤ، مع ممارسات الدولة التواطئية التي تسهل تصرفات القوات شبه العسكرية النازية الجديدة، أو فرق الإرهاب. وتقول الكاتبة: «إذاً، يمنحنا مفهوم التواطؤ أداة لكشف جرائم الدولة؛ وهو أمر حيوي في عالم ما بعد ترامب، إذا أردنا حماية الديمقراطية. تعتمد سلامة الأقليات في أوروبا اليوم على قدرة تطبيق القانون والعمل ضمن المعايير الديمقراطية؛ لمقاومة التواطؤ المباشر، أو غير المباشر مع الميول المناهضة للديمقراطية؛ ودعم حقوق الأقليات، بغض النظر عما إذا كان ترامب، أو لوبان، في السلطة».

نبذة عن الكاتبة:

** ليز فيكيتي هي مديرة معهد العلاقات العرقية، حيث عملت فيه أكثر من ثلاثين عاماً. تترأس برنامج الأبحاث الأوروبي (ERP)، وهي محررة استشارية لمجلة «ريس آند كلاس». وهي مؤلفة كتاب «عدو مناسب: العنصرية والهجرة وكراهية الإسلام في أوروبا». وكتابها الذي عرضناه صادر عن دار فيرسو في 224 صفحة باللغة الإنجليزية.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here