أرشيف

جمهورية وول مارت الشعبية

المصدر

تأليف: مايكل روزورسكي ولي فيليبس

ترجمة وعرض: نضال إبراهيم

في خضم التكنولوجيات الجديدة، وازدياد الاضطرابات السياسية والفوضى الوشيكة الناجمة عن تغير المناخ، والركود الاقتصادي العالمي، يقف هذا الكتاب عند أهمية التخطيط الاشتراكي الديمقراطي الذي بات أكثر أهمية وإمكانية من أي وقت مضى، ويرى أن هناك ضرورة لبناء منظمات عالمية تزيد من رفاهية الإنسان، وتضع حلولاً مستدامة لكثير من الصراعات والمشكلات التي يعانيها المجتمع البشري.

منذ زوال الاتحاد السوفييتي تم الاستيلاء على عباءة أكبر الاقتصادات المخططة في العالم من قبل شركات مثل وول مارت، وأمازون، وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات. بالنسبة لليسار واليمين، تعتبر الشركات الكبرى متعددة الجنسيات بمثابة تعبيرات نهائية عن رأسمالية السوق الحرة، ويبدو أن نجاحها الملحوظ يدل على الفكرة القديمة المتمثلة في أن المجتمع الحديث معقد للغاية، بحيث لا يخضع لخطة ثابتة.

ومع ذلك، كما يجادل المؤلفان لي فيليبس وميشال روزورسكي، فإن كثيراً من اقتصاد الغرب مخطط مركزياً في الوقت الحاضر. ويقولان: «السؤال الحقيقي هو عما إذا كان هذا التخطيط يمكن له أن يكون ديمقراطياً؟»

يُحيي هذا الكتاب الجدل من خلال النظرية الاقتصادية السياسية والتعقيد الحسابي، وتاريخ التخطيط، حول كيف يمكن للمجتمع أن يوسّع عملية صنع القرار الديمقراطي ليشمل جميع المسائل الاقتصادية، خاصة مع التقدم الحاصل في تكنولوجيا المعلومات في العقود الأخيرة، وظهور المشاريع الجماعية المتداخلة في أرجاء العالم، نجد أن التخطيط الديمقراطي أصبح لمصلحة البشرية جمعاء أكثر أهمية، وأقرب إلى التحقيق من أي وقت مضى.

مجتمع أكثر عدالة واستدامة

لا يعيد المؤلفان مجرد فهم فكرة أن التخطيط الاقتصادي مفيد في تأمين توزيع أكثر عدلاً للسلع والخدمات؛ بل يجدان أنه محرك لخلق مجتمع أكثر عدلاً واستدامة. وبالتالي، فإن عنوان هذا الكتاب ليس مفارقة أو استعارة؛ لأن سعي شركة وول مارت للسيطرة العالمية على تجارة التجزئة، قد تكون له عواقب غير مقصودة وإيجابية. أثبت أن استخدامها لاستراتيجية لوجستية مركزية تعتمد على التكنولوجيا أكثر فاعلية من نماذج السوق الداخلية التنافسية التي تستخدمها شركة سيرز القابضة مثلاً.

ويجدر الذكر أن وول مارت، هي شركة أمريكية متخصصة في البيع بالتجزئة، وتعد أكبر شركة في العالم من حيث الإيرادات. وترجع بدايات الشركة إلى سنة 1962، وهو تاريخ افتتاح أول متاجرها على يدي سام والتون. وفي سنة 1968، افتتحت الشركة أول متاجرها خارج ولاية أركنساس، وفي 1 أكتوبر 1972 أدرجت أسهمها في البورصة الأمريكية. تمتلك السلسلة أكثر من 10900 متجر حول العالم، منها 4092 في الولايات المتحدة، والبقية متفرقة بين 27 دولة، من أبرزها كندا والمكسيك وبريطانيا وألمانيا. تسيطر عائلة والتون على الشركة مما أهل أفرادها لاحتلال المراتب الأولى في لائحة مجلة فوربس لأغنى أغنياء العالم.

وتتعرض الشركة لانتقادات كبيرة من الجمعيات الأهلية الأمريكية، بسبب سياساتها الاجتماعية إزاء موظفيها، ولتسببها في إغلاق مئات المتاجر الصغرى، بحسب موسوعة ويكيبيديا.

إن الخدمات اللوجستية الخاصة بأمازون والبنتاغون، تشبه احتياجات وول مارت، وبينما يستنكر المؤلفان أهداف وسلوك هذه المنظمات، فإنهما يوضحان أن «تخصيصها المباشر» للموارد يمكن أن يوفر خطة للتخطيط الديمقراطي.

ويعاين المؤلفان سلسلة من الاحتمالات: هل يمكن أن يصبح الإنتاج «بلا قيود»، كما دعا ماركس، لتطوير التقنيات الذكية والشبكات الاجتماعية من أجل المنفعة بدلاً من الربح؟ هل يمكن تحويل هيئات الصحة الوطنية إلى نموذج إنساني من الأسفل إلى الأعلى، بدلاً من نقص التمويل والتفكيك والسلع الأساسية؟ هل يمكن أن تؤدي إعادة التفكير في الحكم العالمي إلى التطبيق الديمقراطي للبيانات الضخمة؟

ويوضح المؤلفان أن هذا يتطلب إعادة التفكير بشكل كامل في العلاقات الاجتماعية التي تدعم التخطيط المؤسسي الفعال والضار في الوقت نفسه. إنه أمر محبط إلى حد ما أنه لا توجد حلول محددة في ما يتعلق بتزويد الأشخاص المناسبين وأنظمة التحكم في مكانها الصحيح لتشغيل النظام، مما يتطلب مزيداً من القراءة في التخصصات الأخرى.

في ظل الرأسمالية

يقول المؤلفان: «لذلك عندما نسأل عن إمكانية الوصول إلى عالم آخر، نسأل أيضاً هل هناك طريقة أخرى بديلة لتخصيص الأشياء؟ كيف يمكننا توزيع الأشياء بشكل مختلف، ومن يقرر كيفية توزيعها، هل يمكن تحويل الخطط التي يستخدمها أصحاب رؤوس الأموال لإيصال السلع والخدمات إلى أيدي من يستطيع دفع ثمنها، لأن نضمن بدلاً من ذلك وصول ما نُنتجه إلى من هم في أمسّ الحاجة إليه؟ وفي تغيير الطريقة التي توزع بها المواد، هل يمكننا أيضاً البدء بتغيير كل شيء عن الاقتصاد، من المواد التي نصنعها وكيفية صنعها، إلى من يعمل والوقت اللازم لذلك؟ وبمجرد تحديد طرق بديلة لتوزيع المواد، فإن التخطيط في كل مكان حولنا قد يعطي مؤشرات لأسلوب آخر من الإنتاج، وبشكل أكثر إلحاحاً قد يوحي هذا التخطيط القائم بأن سمات المراحل الانتقالية في طريقها إلى عملية تحول أكثر شمولية لاقتصادنا».

ويضيفان: «في ظل الرأسمالية، فإن أسلوب الإنتاج الحالي لدينا قائم أساساً على الطريقة التي ينظم فيها المجتمع اقتصاده، أو أن الطريقة الأساسية المستخدمة لتخصيص الأشياء هي السوق الحرة. في عالمنا يتم تحديد أسعار السلع والخدمات من حيث المبدأ، استجابة للعرض والطلب. يزعم دعاة السوق الحرة بأن هذه العملية تؤدي إلى الحالة التي تتوافق فيها كمية المواد المطلوبة من قبل المشتريين مع كمية المواد المنتجة من قبل الموردين: وهي الحالة التي توصف ب«التوازن الاقتصادي».

ويعلقان على ذلك: «لكي يُطلق على نمط الإنتاج مصطلح الرأسمالية، لا يكفي وجود سوق حرة؛ فعلى أية حال هناك سمات أساسية أخرى للرأسمالية بما في ذلك الاستغلال في مكان العمل، والحاجة إلى بيع الجهد للبقاء على قيد الحياة. وعلى الرغم من ذلك، فإن السوق الحرة شرط ضروري للرأسمالية، وهي كوسيلة للتخصيص تؤدي إلى تزايد اللامساواة من خلال أوجه التفاوت في توزيع الدخل. وتسفر تفاعلات السوق حتماً عن ظهور الرابحين والخاسرين، مما يؤدي إلى عمليات تركيز للثروة. بمرور الوقت تزداد هذه الفوارق، وهي نتاج تفاعلات السوق نفسها».

تسريع عجلة الاستعمار

إن هذه الفكرة المثالية للسوق الحرة موجودة فقط في أذهان أشد المتحمسين المدافعين عنها، وضمن صفحات كتب الاقتصاد المدرسي كما يرى المؤلفان «فالأسواق الحقيقية بعيدة كل البعد عن هذه القصة الخيالية المثالية: حيث تتواطأ الشركات بانتظام لإبعاد المنافسين، والشركات الكبرى تضغط باستمرار من أجل الدعم الحكومي، وهذا هو المعيار الذي يسيطر به عدد قليل من اللاعبين الكبار على كامل فئات المنتجات ويتحكمون في تحديد الأسعار». «إن سوقاً واحداً، وبالتحديد سوق العمالة، يحتاج إلى قرون من ممارسة الإكراه ونزع الملكية لتحويل الفلاحين والمزارعين إلى عمال مستعدين لبيع جهدهم مقابل الأجر.

إن عملية العرض والطلب في كثير من الأحيان لا تصل إلى التوازن، ونتيجة لذلك فإن نظام السوق يفضي عادة إلى خلق أزمات الزيادة في الإنتاج، تسبب حالات الركود والكساد، مع عواقب وخيمة على ملايين الناس»، بحسب المؤلفين.

ويشيران إلى «أن آليات السوق التنافسية بطبيعتها تحفز وتستغل وتتسبب في تفاقم مجموعة من التحيزات غير المنصفة القائمة على الهوية (العرق والجنس والميول الجنسية وما إلى ذلك) والتي تؤدي إلى اضطراب في خدمات النظم البيئية التي يعتمد عليها الإنسان، وتدفع إلى التنافس العسكري بين الدول؛ الأمر الذي يسرع في عجلة الاستعمار، ويفسح المجال للإمبريالية، وفي النهاية تؤدي إلى نشوب الحروب.

وفي حين يتسم العالم الحقيقي كثيراً بعدم التوازن المضطرب بسبب الأسعار التي أوجدتها الأوامر بدلاً من انبثاقها من أثير الجهد التنافسي كما سنرى، عالم تم تكوينه من قبل المخططين الرأسماليين يبقى العالم الذي تحدد فيه الأسواق حياتنا الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية».

وبشكل عام، فإن انتقادات الطريقة الحالية لتنفيذ الأعمال تقترح استبدال السوق، أو على الأقل كبح جماحه كما يرى المؤلفان. ويعلقان: «ولكن إذا لم يستمر التخصيص عبر السوق فسيحدث ذلك من خلال التخطيط الاقتصادي المعروف أيضاً ب«التخصيص المباشر»، والذي لم يتم من قبل «اليد الخفية»، ولكن من قبل أناس بارزين جداً».

ويضيفان: «في الواقع هذا الشكل من التخصيص المخطط له، يحدث بالفعل على نطاق واسع في نظامنا الحالي، من جانب الأفراد المنتخبين وغير المنتخبين على حد سواء، ومن قبل الدول والمؤسسات الخاصة، وفي الأشكال المركزية واللامركزية. حتى أمريكا ذات الرأسمالية الكبيرة لم تعد موطناً ل«وول مارت» و«أمازون» فحسب؛ بل أيضاً للبنتاغون: على الرغم من كونها مدمرة بشكل لا يُصدق، فإن وزارة الدفاع الأمريكية تعتبر المشغل الوحيد الأكبر في العالم، ويتم تشغيلها بشكل مركزي في القطاع العام. في الواقع، جميع الدول تقريباً تعتبر اقتصادات مختلطة تشمل مجموعات مختلفة من الأسواق والتخطيط».

منظمات لرفاهية الإنسان

يعود المؤلفان إلى تاريخ تخطيط المجتمعات البشرية، قائلين: «في الواقع، رافق التخطيط المجتمعات البشرية منذ أن كانت موجودة. وقد خلقت حضارات بلاد ما بين النهرين القديمة على مر آلاف السنين، مجموعة من المؤسسات الاقتصادية التي تربط ورشات العمل والمعابد في المدن بالإنتاج الزراعي للفلاحين في الريف. كانت السلالة الثالثة للأور التي ازدهرت حول نهري دجلة والفرات، مع نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد، من بين الأوائل الذين حققوا انطلاقة دائمة لحفظ السجلات على نطاق واسع. فالألواح الطينية تحتوي على تنبؤات لغلال المحاصيل بناء على معدلات جودة التربة، وهي مستنبطة من خلال أعوام من الزمن لحفظ السجلات».

ويضيفان: «على الرغم من أن الاقتصاد كان لا يزال تحت رحمة الطقس الذي لا يمكن التحكم فيه، فإنه كان ممكناً إدارته على مستوى بدائي. ومع ظهور بيانات مفصلة أصبحت التوقعات والتقديرات وكلاهما بأهمية حاسمة للتخطيط من سمات الحياة الاقتصادية. على عكس اقتصاد تبادل الهدايا المحلي لعصور ما قبل التاريخ، شهدت بلاد ما بين النهرين القديمة أنظمة إعادة التوزيع المركزي التي تحاكي دول الرفاه في يومنا هذا، كالضرائب والرسوم، ونقل البضائع والخدمات إلى الخارج».

«إلى جانب الكتابة والرياضيات التي تعتبر اللبنات الأساسية لبناء الحضارة التي تطورت تزامناً مع حفظ السجلات الاقتصادية، طور القدماء النقود، ليس فقط بالطريقة التي يتخيلها بعض الاقتصاديين». كتب آدم سميث في مقطع من كتابه «ثروة الأمم»: «الميل إلى المبادلة، والمقايضة، واستبدال شيء بآخر أدى إلى تقسيم العمل، واختراع المال، وتعقيد اقتصادي أكبر. لقد توارث هذا الشيء من الاعتقاد لعدة قرون، ولا زال من الممكن العثور عليه في معظم كتب الاقتصاد الدراسية الأولية. المشكلة مع هذه القصة المثيرة للاهتمام هي أنها خاطئة. تم تطوير التخصص داخل المجمعات المنزلية الكبيرة، حيث لم يكن هناك تبادل دولي، وقام أرباب الأسر بتوزيع إجمالي إنتاج الأسرة فيما بين الأعضاء الذين خططوا لذلك»، بحسب المؤلفين.

«من ناحية أخرى نشأت النقود إلى حد كبير كأداة للتجار والسياسيين والمرتزقة وغيرهم، لتسوية الديون مع المعابد القديمة. ومع تزايد التعقيد الاقتصادي تم اعتماد المال على نطاق واسع كوسيلة لتتبع الضرائب وغيرها من المعاملات الرئيسية. بعض الأسعار عامت خلال أوقات غير عادية: على سبيل المثال، سعر الحبوب خلال موسم الحصاد السيئ للغاية. ومع ذلك، فإنه في معظم الأحيان كانت الأسعار قياسية موحدة للغاية».

وتفيد الخاتمة السياسية لهذا الكتاب أنه إذا كان بإمكان البشر بناء بيروقراطيات كبيرة تزيد من الأرباح الخاصة بقوة، فمن الواضح أنه يمكننا بناء منظمات كبيرة وفعالة، تعمل على زيادة رفاهية الإنسان والبيئة بشكل أكبر.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here