تقارير

جذور فكرة دنيوية السلطة

المصدر

عبد الإله بلقزيز

ما من دليل على الفكرة القائلة إن الدولة مؤسسة اجتماعية تقوم السلطة فيها باتفاق الناس وإرادتهم، وأنها لذلك، ليست مؤسسة دينية أو محكومة بالتزام قواعد دينية، من أن المعنى هذا كان مدركاً منذ الصدر الأول للإسلام، وأن إقامة السلطة، في العهد الخليفي وفي ما أعقبه من عهود، سلك هذا المسلك في التعامل مع السلطة بما هي شأن تقرره الجماعة. والوعي هذا بدنيوية السلطة هو الذي أثمر، مع الزمن، «نظرية» فيها قائمة على مبدأ الاختيار كمبدأ رئيسي لتكوين السلطة واكتسابها الشرعية لدى الجماعة التي تقوم فيها وتقوم على أمورها ومصالحها.

لا أبغي، هنا، أن أعقد مقارنة بين فكرة تأسيس السلطة على مبدأ العقد والاختيار، عند «أهل السنة والجماعة»، ونظرية العقد الاجتماعي في الفلسفة السياسية الأوروبية للقرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا أن أوحي بأن جذور النظرية الثانية توجد في الفكرة الأولى. مع ذلك، ليس شأناً يسيراً أن تزدهر هذه الفكرة في المجال الإسلامي الكلاسيكي، وأن يكون عليها مبنى الاجتماع السياسي فيه. وما من شك في أن واحداً من أهم الأسباب الحاملة على تكوّن الاختيار وفشوها في المعتقد السياسي هو عدم التشريع القرآني لمسألة السلطة والدولة، الأمر الذي تَوَلد منه أن تُرِك أمرُها للاجتهاد والاتفاق. وليس القول بالاختيار أكثر من وجْه من وجوه الاجتهاد في المسألة.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن الفراغ التشريعي لم يكن، وحده، العامل الحامل على إعمال الاجتهاد والصيرورة منه إلى فكرة الاختيار والعقد؛ بل كان إلى جانب ذلك- أيضاً- البناء على سابقة الخلفاء في توسل طريقة الاختيار في توليتهم أمور الجماعة الإسلامية. وسواء كانت التّولية على منوال الاختيار في سقيفة بني ساعدة، أو على منوال اختيار الخليفة عمر بعهد من الخليفة أبي بكر على قاعدة استشارة لكبار الصحابة، أو كانت على طريقة شورى عمر بن الخطاب، فقد أخِذ بها مبدأً وقاعدة في إقامة الإمامة، حتى وإن داخلها- منذ مطلع العهد الأموي- شكل جديد من انتقال السلطة مبناه على ولاية العهد. فقد وقع استدخال هذه الأخيرة في «نظرية» الإمامة- عند أهل السنة- لتتجاور مع مبدأ الاختيار والعقد لمن يتولى بعهد.

حين وضعت التآليف الكبرى في فقه السياسة الشرعية، في القرن الخامس للهجرة (الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي؛ الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء؛ غياث الأمم في التياث الظلم لأبي المعالي الجويني…)، كانت فكرة إقامة الإمامة – عند أهل السنة- قد استتبت في الواقع السياس وباتت مألوفة ومن عدة اشتغال نظام السياسة والسلطة في الاجتماع الإسلامي، ولم يكن قد بقي- حينها- سوى التأصيل الفقهي لفكرة الاختيار ولاعتبار السلطة شأناً دنيوياً يعود القرار فيه إلى الجماعة. وذلك، بالضبط، عين ما حصل في ما كتبهُ في الموضوع فقهاء السّياسة الشرعيّة من المارودي إلى ابن تيمية (خاصة في كتابه: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية من دون كتبه الأخرى).

مقابل مبدأ الاختيار، الذي يؤسسه القول بأن السلطة شأن يعود إلى الجماعة (في مذاهب السنة)، انفرد الفقه الإمامي الجعفري بالتنظير لفكرة التعيين والوصية. وبيان موقفه أن لا شأن للجماعة بأمر الإمامة، وأن هذه منصوص عليها ومخصوص آل البيت بها، وهي تنتقل فيهم من دون غيرهم لأن مبناها على الوصية لهم وحدهم. ولم يكن المذهب الإمامي من ابتدع الفكرة هذه، ولكنها كانت قد طبقت قبل ابتدائه- مع جعفر الصادق- في الإمامات الخمس قبله، أو هكذا هي المسألة -على الأقل- في المخيال الشعبي الإمامي ومرويات تاريخ المذهب. وقد استمر العمل بمقتضى هذا المبدأ في الإمامية، من غير ميل إلى الخروج، فيما غالت في ذلك فرق أخرى مثل الإسماعلية، فيما انفردت الزيدية بالقول القريب من السنة، ومفاده بأن الإمامة ليست من أركان الدين، وهذا سبب تسليمها بشرعية خلافة من تطعن الإمامية في شرعيته.

وهكذا في مقابل فرضية دنيوية السلطة، عند «أهل السنة والجماعة»، انتصبت فكرة دينيتها لدى الإمامية والإسماعلية. ولأن معظم تاريخ الإسلام شهد على النموذج الأول للسلطة- إلا في القليل النادر – لم تنشأ في ذلك التاريخ سلطة دينية لحسن الحظ؛ بل ظلت السلطة شأناً اجتماعيا تقرره الحقائق الدنيوية، ولم تقم فيه مؤسسة كهنوية تحتكر المجال السياسي؛ بل ظل الجسم الفقهائي في الإسلام جسماً علمياً منصرفاً ًإلى المعرفة الشرعية، معترفاً بانقسام طبيعي للمجتمع إلى فريقين: العلماء والأمراء، وإلى مجالين: مجال السياسة ومجال الدين.

abbelkeziz@menara.ma

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here