ثقافة

ثقب أسود

المصدر

من هنا، ومن حيث أنا، وعندما أفكر في الأمر، لا أجد طريقة يمكن للثقب الأسود أن يصل بها إلى بيتنا سوى خزانة الملابس التي اشتريناها من حراج ابن قاسم. ولو افترضنا طريقةً أخرى اعتباطاً، فكيف لفتاةٍ في السادسة أن تُدخله خزانة الملابس؟! كيف استطاعت السيطرة عليه وتحريكه والدفع به إلى داخلها بلا خوف وهي تشاهده يبتلع كل ما يقترب منه؟! وهناك أيضاً سؤال آخر أكثر إلحاحاً يدفعني إلى الجنون: لماذا لم نره أنا وأبي في الخزانة عند شرائها رغم كل معايناتنا الدقيقة؟!
ففي ذلك اليوم جبنا محلات الحراج واحداً تلو الآخر بحثاً عن خزانة تناسب أختي، آخذين بعين الاعتبار تعليمات أمي الواضحة: (نريد خزانة صغيرة، وردية اللون لتتوافق مع جدران الحجرة).
وعلاوةً على اشتراطات أمي، فقد كان أبي دقيقاً في بحثه، يعاين ويتفحص كل محلٍ نمر به. يُدخل رأسه في الخزانة التي يقع بصره عليها. ينظر إلى جدرانها من جهاتها الأمامية والخلفية والجانبية والعلوية. وليتأكد من متانتها، يفتح الأبواب ويصفق بها، ثم يفتح الأدراج ويصفق بها، والباعة لا يخفون تذمرهم مما يفعله ببضاعتهم. كنا كمن يبحث عن إبرةٍ في كومةٍ من القش نتيجةً لمعاينات أبي ومواصفات أمي مما دفعنا لهذه الخزانة المستخدمة.
تعامل البائع مع أبي هو الآخر يؤكد لي أن الثقب كان بداخل الخزانة مما دفعه للتخلص منها بأي وسيلة، فترك أبي يصفق أبوابها وأدراجها كما يشاء، وزهد في سعرها الذي بدأ مفاوضة أبي عليه:
(ثلاث مئة)
ثم راحت العشرات تتساقط في تمثيلية واضحة:
(مئتان وثمانون ريالاً)
(مئتان وخمسون)
(مئتان وعشرون وهذا آخر ما لدي)
ثم قال مبتسماً: (لن نختلف إذا كانت تعجبك)
في النهاية باعها لنا بمئتي ريال وتحمل كلفة نقلها إلى منزلنا على حسابه. وهذا كله يجعلني واثقاً أن الثقب الأسود كان بداخلها رغم أننا لم نره عند شرائها.
أختي الغاضبة لأننا لم نأخذها معنا إلى الحراج لتختار خزانتها بنفسها رفضتها في البداية. ظلت لساعات عاقدةً يديها بتحفظ في الصالون ولم تذهب إلى حجرتها لإلقاء نظرةٍ على خزانتها. ولكن بعد أن احتالت أمي عليها وأدخلتها الحجرة لم تعد للخروج منها. مرت ساعة، ساعتان، ثلاث ساعات، ولكنها لم تظهر في الصالون مما أصاب أمي بالقلق ولم تهدأ حتى أطلت عليها فوجدتها سعيدة بخزانتها وترتب ملابسها فيها. اطمأنت أمي عندها واطمأن أبي، كما أني اطمأننت أيضاً رغم أني أحب إغاظتها والتلاعب بأعصابها. وكثيراً ما أعبث معها وأقول لها إنها ليست ابنتنا! أوووه، من منا لا يقول ذلك لإخوته الصغار؟! كنتُ أقول لها دائماً إن أبي وجدها في برميل نفايات.
(عمرك يومها لم يتجاوز الأسبوع. كنتِ ملفوفةً في قماط قذر، ووجهك مزرق، شاحب، وتبكين من الجوع والمرض، ورائحتك منتنة. فقرر أبي أخذك إلى بيتنا لرعايتك)، ثم أختم حديثي بعد أن أتأكد من إغضابها: (يجب عليك إذا كبرتِ أن تبحثي عن أهلك الحقيقيين).
في الأسابيع التي تلت شراء الخزانة باتت تلزم حجرتها ولا تخرج منها إلا للضرورة، للمدرسة، للعشاء، للغداء، لدورة المياه، أو عند استدعاء أمي لها. ثم لا تلبث -في هذه الحالات- أن تعود مسرعةً إليها. لم تعد تهتم بالتلفاز والرسوم المتحركة ولا تريد اللعب مع الأقرباء والأصدقاء الذين يزوروننا أو يزورنها على وجه الخصوص. كان الأمر مثيراً للشك، ولكن أحداً لم يدرك خطورته في حينه. وما أثار فضولي وأزعجني في نفس الوقت، أنها لم تعد تهتم بما أقوله عن أهلها. وعندما أعيد ما اعتدت قوله عن كونها لقيطة، كانت تبتسم بسخرية ولا تجيب بشيء. أو ربما في بعض المرات تجيبني بتحذير طفولي: (ستندم على ما تفعله بي) ثم لا تزيد شيئاً وتغادر.
في اليوم الذي حدث فيه الأمر، سألتها عما تفعله في حجرتها طوال الوقت فأجابت: (أنا ألعب، إنني ألعب فقط).
وعندما كررت الجملة ساورني الفضول.
(بماذا تلعبين؟)
(تعال معي إلى حجرتي وستعرف).
كانت ابتسامتها صفراء وهي تقول جملتها الأخيرة. لم أفهم ما تعنيه مما دفع فضولي للتدحرج ككرة ثلج مع الثواني التي كنت أنظر فيها إليها. ثم وقفتْ على قدميها وسارت إلى حجرتها بتؤدةٍ كما لو كانت تنتظرني، وقبل أن تختفي من الصالون استدارت مبتسمةً إليّ: (تعال لأريك ألعابي).
لم أتردد للحظة، لحقت بها ودخلت حجرتها فإذا بها تتجه إلى الخزانة وتفتح درفتيها وأنا أنظر إليها مستكشفاً ما بداخلها.
تصفيف الخزانة بدا غريباً من النظرة الأولى. الباب الأيمن حيث الأرفف، كان مليئاً بالملابس المرتبة، أما باب العلاقة فكان فارغاً. ثم لاحظت أن هناك شيئاً أسود يطير في منتصفه، شيء مستدير بحجم ثمرة عنب يدور على نفسه معلقاً في الهواء تحت العلاقة. نظرتُ إليه متعجباً وسألتها وأنا أقترب منه: (ما هذا؟!)
لم تجبني، تحينتْ الفرصة حتى اقتربتُ من الخزانة ودفعتني إلى داخلها وأغلقتْ بابها خلفي وحدث الأمر بسرعة. لم أستطع المقاومة، لم أستطع الصراخ، فقدت توازني ورحت أدور في مسارٍ إهليجي حتى ابتلعني الثقب الأسود.
الآن وأنا أحدثكم من هذا السواد الحالك والفضاء العائم، ولست أعلم إذا كانت رسالتي ستصلكم أم لا، أود منكم أن تخبروا أختي أني أحبها، وأن ما كنت أقوله ليس صحيحاً، وأني أعتذر لها عن مزاحي البغيض. واطلبوا منها أن تعيدني إلى المنزل، فقط أريد العودة إلى المنزل وأنا أقسم ألا أقول لها شيئاً يغيظها مرةً أخرى.

خالد سعيد الداموك – الرياض

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here