أرشيف

تصميم المؤسسات بعد الصراع

المصدر

تأليف: أبو بكر باه

ترجمة وعرض: نضال إبراهيم

منذ استقلالها عن الحكم الاستعماري، تكافح معظم الدول الإفريقية لبناء دول ديمقراطية وسلمية. وعلى الرغم من اعتبار السياسة الإفريقية ذات الأحزاب المتعدّدة نظام حكم ديمقراطي، إلا أنها في الواقع تعاني المظالم السياسية الإثنية والإقليمية التي تقوّض أسس الديمقراطية الهادفة. ويناقش هذا الكتاب كيفية تصميم المؤسسات الديمقراطية بعد الصراعات في الدول الإفريقية، مشيراً إلى جوانب الضعف والخلل، ثم كيفية بناء السلام الحقيقي.

من خلال دراسة الإصلاحات المؤسسية بعد انتهاء الصراع في العديد من البلدان الإفريقية، لا يلقي الكتاب الضوء على الأسباب الشائعة للصراعات العنيفة فقط، ولكن الأهم من ذلك، على كيف يمكن أن تؤثر التصميمات المؤسسية في ظروف السلام والديمقراطية في إفريقيا. ويركز الكتاب على الأسئلة المفاهيمية والعملية لتصميم مؤسسات الدولة الشاملة عرقياً وإقليمياً، والطريقة التي ينظر بها المواطنون إلى المؤسسات.

كما يتناول الكتاب، على وجه الخصوص، قضايا الاستقلال السياسي والسيطرة على الموارد، التي غالباً ما تكون مصادر رئيسية للمظالم العرقية والإقليمية، ومطالب الاستقلال الذاتي السياسي. علاوة على ذلك، يعاين المعنى الرمزي واليومي للإصلاحات المؤسسية والمسائل الرئيسية المتمثلة في الخيارات المؤسسية والتمثيل العرقي والإقليمي.

يقع الكتاب في 256 صفحة من القطع المتوسط، وهو صادر باللغة الإنجليزية حديثاً عن دار«زيد» البريطانية للنشر، ويأتي في سبعة أقسام، هي: أولاً: مقدمة: التصميم المؤسسي وبناء السلام والديمقراطية بقلم أبو بكر باه. ثانياً: النظام الإفريقي لحقوق الإنسان والحق في الحكم الذاتي بقلم نيكلاس هولتين. ثالثاً: الديمقراطية، والانتقال ما بعد الحرب وبناء السلام في أوغندا، بقلم أوكا أوبيو دوكوتم، رابعاً: تسخير مؤسسات الذاكرة من أجل السلام والعدالة: حالة جنوب إفريقيا، بقلم ديفيد موامباري وإريس نكسومالو، خامساً: إصلاحات الموارد الطبيعية في ليبيريا وسيراليون بعد الحرب: التناقضات والتوترات، بقلم مايكل دي. بييفر، سادساً: التفويض والعنف الانتخابي في كينيا، بقلم أديتي مالك، سابعاً: التصميم المؤسسي والديمقراطية وبناء السلام في إفريقيا، بقلم أبو بكر باه وفريدريك أوجينجا.

ديمقراطية إفريقية متزعزعة

عانت البلدان الإفريقية الدكتاتوريات، أو السياسات متعددة الأحزاب التي ولّدت عنفاً سياسياً كبيراً، وفي أسوأ الحالات حروباً أهلية. وكان العالم السياسي النيجري الراحل كلود آيك، يقول بوضوح إن «الديمقراطية لم تشهد استقراراً في إفريقيا». وفي الواقع، تم زرع بذور الدكتاتوريات ذات الحزب الواحد والانقلابات والحروب الأهلية المدفوعة عرقياً بعد الاستقلال مباشرة. وفي الوقت الذي يكون فيه من السهل تخفيف الصراعات السياسية الإفريقية إلى عرقية وإقليمية، إلا أننا نجد نمطاً حياً من النزاعات السياسية التي تدور في كثير من الأحيان حول الهويات العرقية، والإقليمية.

وفي الواقع، وعلى الرغم من أن الإثنية والإقليمية ليستا السببين الرئيسيين للعنف السياسي، كما قيل كثيراً في أدبيات التظلم، إلا أنهما أداتان أساسيتان لتعبئة وتنظيم العنف السياسي لخدمة مصالح النخبة. وبهذا المعنى، كانت الإثنية والإقليمية في قلب النزاعات السياسية في إفريقيا. وفي غرب إفريقيا على سبيل المثال، ابتليت الديمقراطيات الأولى بالعنف العرقي، وسرعان ما تدهورت إلى نظام الحزب الواحد، أو النظام العسكري.

وفي نيجيريا، أدت المنافسة السياسية الإقليمية والعرقية على السلطة التي حشدت الشماليين ضد الجنوبيين إلى نزاعات متقطعة بين قبائل الهوسا، وإيجبوس، ويوروبا، وإلى سلسلة من الانقلابات، وحرب بيافرا، أو الحرب الأهلية النيجيرية من 6 يوليو/ تموز 1967 إلى 15 يناير/ كانون الثاني 1970. وفي سيراليون أيضاً، انخرط مؤيدو حزب شعب سيراليون الذي يهيمن عليه الجنوب، ومؤتمر جميع الشعوب الذي يهيمن عليه الشمال، في أعمال عنف وانقلابات سياسية كبرى، توجت بسيطرة حكم الحزب الواحد، والتهميش السياسي لشعب الميندي الذي يعد أحد أكبر مجموعتين عرقيتين في سيراليون.

وظهرت مشكلات مماثلة في غانا وليبيريا. فقد شهد هذان البلدان الفرنكوفونيان أيضاً، عنفاً سياسياً، وتهميشاً عرقياً، ما أدى إلى حكم الحزب الواحد فيهما. كما كانت غينيا أيضاً، على وجه الخصوص، حالة سيئة السمعة للاستقطاب العرقي والدكتاتورية الوحشية. حتى إن دولة ساحل العاج، المدارة بشكل جيد نسبياً، سقطت ضحية لتركات حكم الحزب الواحد والتهميش العرقي تحت قيادة فيليكس أوفوي بوانيي.

وفي شرق ووسط إفريقيا أيضاً، تعرضت الديمقراطيات الأولى للعنف السياسي الذي حرضت فيه المجموعات العرقية والإقليمية ضد بعضها بعضاً. وفي كينيا على سبيل المثال، كان العنف السياسي العرقي حول السيطرة على قضايا الدولة والأراضي شائعاً بشكل خاص بين المجموعات العرقية الرئيسية، وفي منطقة الوادي المتصدع. كما توجد مشكلات مماثلة في بلدان مثل أوغندا، وبوروندي. وفي السودان وإثيوبيا، تؤدي السياسات العرقية والإقليمية إلى حروب انفصالية مريرة. وحتى بعد انفصال جنوب السودان، وإريتريا، لا تزال المشكلات قائمة.

القمع والعنف السياسي

في جميع هذه البلدان، أصبحت الديمقراطية متعددة الأحزاب تعاني العنف الذي يمهد الطريق لفرض حكم الحزب الواحد، أو يتحول الأمر إلى حكم الأمر الواقع، الأمر الذي أدى إلى مزيد من العنف السياسي في التسعينات. وفي حالة رواندا، بلغت السياسات العرقية ذروتها في الإبادة الجماعية.

وحتى في البلدان التي يعزى فيها العنف السياسي الكبير إلى صراعات وطنية أوسع نطاقاً، هناك حالات من سياسة الهوية. وفي حالة جنوب إفريقيا، حيث كان العرق هو الدافع الرئيسي للقمع والعنف السياسي، ظهرت مستويات كبيرة من العنف بين حزب الحرية إنكاثا الذي يهيمن عليه الزولو، والمؤتمر الوطني الإفريقي الذي كان مدعوماً بشدة من شعب خوسا. وإضافة إلى ذلك، تم تهميش السكان الأصليين في جنوب إفريقيا من قبل كل من الحركات السياسية البيضاء، والحركة السوداء. وفي الصومال، تدهورت السياسة العشائرية إلى عنف سياسي بطرق تشبه النزاعات في ليبيريا، وجنوب السودان. وفي زيمبابوي، أخفى الصراع المرير ضد حكم البيض، وإحكام قبضة موجابي على البلاد، بعض المظالم السياسية العرقية في البلاد. وبرغم ذلك، ومع تراجع نظام موجابي، أصبحت المظالم السياسية العرقية أكثر بروزاً.

هذا العمل يثير تساؤلات نقدية حول تصميم المؤسسات السياسية وتحديات بناء ديمقراطيات سلمية: في كثير من الأحيان، تُعزى النزاعات السياسية الإفريقية إلى ضعف القيادة، والجشع، والفساد، والدكتاتورية، والتدخل الخارجي. والافتراض الرئيسي في هذه الأنواع من الانتقادات هو أن الحكم الديمقراطي يمكن أن يحل معظم المشكلات من خلال تحميل القادة مسؤولية الشعب من خلال العملية الانتخابية، وسيادة القانون. وقُدّمت هذه كحجة رئيسية خلال التحولات الديمقراطية في التسعينات، وكانت تهدف إلى إنهاء الأنظمة الحزبية والعسكرية في إفريقيا. وما كان يحدث غالباً في ذلك النقاش هو حقيقة أن الديمقراطية متعددة الأحزاب فشلت في تعزيز السلام خلال فترة ما بعد الاستقلال مباشرة.

وبقيادة السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة والحوكمة، أربكت الإصلاحات الديمقراطية في التسعينات مبادئ الديمقراطية مع آلية الديمقراطية. وفي كثير من الأحيان، كان يُنظر إلى الأنظمة الانتخابية متعددة الأحزاب على أنها كافية لإنتاج ديمقراطيات مسالمة. وبعد ما يقرب من عقدين من الموجة الثانية من الديمقراطية، ابتليت البلدان الإفريقية مرة أخرى بأنظمة سياسية متعددة الأحزاب تنتج عنفاً سياسياً.

مثلاً، في ساحل العاج، تدهورت سياسة الأحزاب المتعددة إلى حرب أهلية، حيث تم التلاعب بالهويات العرقية والإقليمية من قبل النخبة. وفي كينيا، أنتجت الانتخابات متعددة الأحزاب عنفاً كبيراً في عام 2008، وما زالت تعاني العنف وانسداد الحلول. وظهرت مشكلات مماثلة في بلدان مثل توجو، وجامبيا، وسيراليون، وغينيا، وأوغندا. إن القضية الحاسمة التي لا يزال يتعين معالجتها هي ما إذا كانت آلية الديمقراطية ذات الأحزاب المتعددة التي تتسم بالليبرالية الجديدة يسودها مبدأ «الفائز يأخذ كل شي» تساهم في العنف السياسي.

محركات الصراع

حددت دراسات النزاعات وبناء السلام في إفريقيا مجموعة متنوعة من أسباب الصراع التي تكمن في الإثنية، وضعف الحوكمة والإدارة، والموارد الطبيعية. وتشير الدراسات في هذا الكتاب أيضاً إلى هذه الأنواع من أسباب الصراع في جميع أنحاء إفريقيا. وفي حين أنه يمكن أن نميل إلى التركيز على واحدة من هذه العوامل كسبب للنزاعات في إفريقيا، قد يكون من المفيد اعتبار كل سبب مساهماً حاسماً في النزاعات العنيفة في إفريقيا.

وعلى الرغم من أن معظم الدراسات تشدد على عامل واحد أكثر من العوامل الأخرى، إلا أن الأدبيات المتعلقة بالسلام والصراع في إفريقيا قد تناولتها جميعاً. ويأخذ المؤلف في الأدب خطوة أبعد من خلال إظهار الترابط بين هذه العوامل الثلاثة. وفي الواقع، تُظهر قراءة أعمق للأدبيات حول هذه القضايا الترابط في الطريقة التي تغذي بها الإثنية والحكم السيئ والموارد الطبيعية بعضها بعضاً لإنتاج صراعات سياسية عنيفة، وفي أسوأ الحالات حروب أهلية.

وربما كانت الإثنية التي لوحظت منذ فترة طويلة في الدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية، أكثر العوامل انتشاراً. ومع ذلك، تطورت طبيعة النزاعات العرقية وآثارها في الدول الإفريقية إلى جانب تحولات الدول. وفي الدراسات السابقة لإفريقيا المستعمرة، كان يُنظر إلى العرق على أنه أداة للتقسيم والسيادة، كما تشير الدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية التي يرجع تاريخها إلى تجارة الرقيق، وإلى القبائل، والحرب القبلية في إفريقيا.

وتكثفت النزاعات القبلية مع الاستعمار لأن القوى الأوروبية غالباً ما انضمت إلى مجموعة لغزو وتهدئة الجماعات الأخرى التي قاومت الحكم الاستعماري. وفي هذه الفترة المبكرة، تم تأطير الإثنية من خلال هويات محلية كما تجسدها فكرة القبيلة. وعلاوة على ذلك، كان دائماً ما يُنظر إلى أسباب النزاعات الإثنية وآثارها في ما يتعلق بالتطفل الاستعماري. ومن الحقائق المهمة للنزاعات الإثنية خلال الحكم الاستعماري أنها كانت ذات أشكال داخلية وخارجية، تم استغلالها من قبل القوة الاستعمارية، كما لاحظ بيتر إيكي، في نقده للأدب الاستعماري حينما قال:

«توجد تشوهات أيديولوجية أيضاً في توصيف الحياة السياسية.»فالقبيلة ضد القبيلة«هو الموضوع الشائع في الروايات الاستعمارية عن الصراعات الإفريقية. ويتم إعطاء صراعات»بين القبائل«، وليس»داخل القبائل«. وكانت لهجة تفسيرات الصراع السياسي في إفريقيا تركز بعناية على التنافر»بين القبائل«في إفريقيا ما قبل الاستعمار. بهذا التحليل كان المسؤولون الاستعماريون يستخدمون سياسة»فرق تسد«بشكل فعال لإيجاد تنافر بين المجموعات في الوضع الاستعماري، وهي استراتيجية واضحة بشكل خاص في الأيام المتراجعة للاستعمار في كل دولة إفريقية تقريباً، ومن جهة أخرى أظهرت المسؤولين الاستعماريين في صورة المتدخلين الخيرين الذين أتوا إلى إفريقيا لأنهم أرادوا إقامة الديمقراطية وإرساء الحكم العادل».

بناء السلام والتصميم المؤسسي

يرى الكاتب أن العلاقة بين التصميم المؤسسي وتوطيد السلام والديمقراطية هي قضية أكاديمية وسياسية مهمة، ولكنها تحتاج إلى مزيد من الاهتمام، ويستشهد بما تقوله كاثرين بون، أستاذة السياسة المقارنة في كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية: لهذه القضايا آثار في كيفية فهمنا لبناء الدولة الإفريقية، ولصياغة وتبرير استراتيجيات للإصلاح المؤسسي، وللتصور للمستقبل الاقتصادي لإفريقيا. وفي كثير من الأحيان، يتم فصل الديمقراطية وبناء السلام في الأدبيات، على الرغم من أنها تعالج المشاكل ذات الصلة.

وعلاوة على ذلك، تميل كل من دراسات الديمقراطية وبناء السلام إلى تجاهل مسألة التصميم المؤسسي على الرغم من أهميتها لتوطيد السلام والديمقراطية. ومن المثير للاهتمام، أن دراسات الديمقراطية والصراعات في إفريقيا تثير سؤالين رئيسيين مترابطين، هما: ما هي الأسباب الأساسية للصراعات العنيفة؟

كيف يمكن للبلدان الإفريقية تصميم مؤسسات تهيئ الظروف للسلام والديمقراطية؟ وتقلل أدبيات الديمقراطية من هذين السؤالين الرئيسيين إلى حد كبير إلى مسألة كيفية الانتقال بنجاح من الدكتاتورية إلى الديمقراطية.

ويشير الكاتب إلى أنه مع انتقال البلدان الإفريقية نحو الديمقراطية، تحوّل السؤال إلى التركيز على العوائق الهيكلية أمام توطيد الديمقراطية. ومع ذلك، لا يزال التصميم المؤسسي هو أضعف جانب من جوانب الدراسات حول الديمقراطية الإفريقية. لقد عالجت دراسات الأنظمة الديمقراطية في أوروبا وأمريكا اللاتينية مشكلة كيفية تصميم الديمقراطية: النظام الانتخابي، الفيدرالية، النظام الرئاسي مقابل النظام البرلماني، وغيرها. ومع ذلك، هناك عدد قليل جداً من الدراسات المماثلة للتصميم المؤسسي للبلدان الإفريقية، وتقتصر الجهود المبذولة لدراسة التصميم المؤسسي في إفريقيا على الأعمال المتعلقة بحقوق الفيدرالية وحقوق الأقليات في جنوب إفريقيا ونيجيريا.

نبذة عن المؤلف

* أبو باه بكر: أستاذ علم الاجتماع بجامعة شمال إلينوي، وأستاذ مساعد في مركز الدراسات غير الربحية والمنظمات غير الحكومية.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here