أرشيف

الواقعية الخلدونية: نموذج لحاضرنا

المصدر

ربما يجوز القول إنه مع قفل باب الاجتهاد، وانحسار ذلك المد العقلاني في العصور الكلاسيكية، كما يصفها المفكر العربي الراحل (محمد أركون)، تسرب إلى الفكر العربي الإسلامي موجات من اللاعقلانية والخرافات والكرامات، والعقل المستقيل، كما هي لغة المرحوم: الجابري، والتي تنافي سنن الطبيعة، وقوانين الكون التي قال عنها الله تعالى في كتابه «سنة الله التي قد خلتْ من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا».
يجوز القول في هذا السياق إن الفكرين العرفاني والشيعي، هما أبرز من استبطن ما يتعارض وسنن الطبيعة، بما يدعيانه من معجزات وكرامات لأقطابهم وأئمتهم، أما الفكر السني، فهو وإن كان لا يقارن بالفكرين السابقين، من حيث استبطان الخرافة، إلا أن تضعضع النظرة الواقعية لديه، جعلته يقترب من أن يكون أسير انتظار تأثير المعجزات، أو الكرامات على أحداث الطبيعة والاجتماع.
الفكر العربي الإسلامي، خاصة السني منه، كونه أقرب إلى روح العصر، يحتاج إلى أن يتبنى فلسفة واقعية تنظر إلى العالم، بشقيه: الطبيعي والاجتماعي، على أنه محكوم بقوانين وآليات، يمكن تتبعها، ورصدها، ومن ثم معرفة سيرورتها، وصولا إلى التحكم بها؛ ومن ثم، عدم رهن الحاضر والمستقبل لمعجزات لا وجود لها مع سنن كونية تتماهى مع معطى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
كان الأشاعرة قد أسسوا، لأول مرة، في الفكر الإسلامي ما عبروا عنه بـ(العادة)، وهي تعني عندهم أنه لا شيء يؤثر في شيء، ولا علة تؤثر في معلولها، فالنار مثلاً، ليس لها أثر في الإحراق، وما يراه الناس من إحراق النار، إنما هو عادة وإلف فقط، وليس ناشئًا عن علة في النار، فالله يخلق الاحتراق باطراد، كلما التقت النار مع ما تحرقه، دون أن يكون للنار أثر يُذكر. وهكذا لا حقيقة لطبائع الأشياء. وهذا معناه أيضا إنكار علاقة الأسباب بمسبباتها، بالزعم بأن التلاقي بينهما ما هو إلا عادة، إذ ليس هناك أي علاقة ترابطية، إلا ما يشاهده الإنسان بعينه، والمشاهدة ليست حجة. بمعنى: أن اطراد الموجودات وتسلسلها ليس قائما على الترابط (العليّ)، بل إن العادة وجريانها هما السبيل في إحساسنا بالتعاقب.
ولقد استنتجوا من ذلك، أن قدرة الله تعالى لا تستبين ولا تتضح إلا إذا انقلبت طبائع الأشياء، كأن تنقلب النار ماء، والبيضة تمرة، وهكذا. جاء ابن رشد الحفيد فقلب الطاولة عليهم، عندما أكد أن قدرة الله تعالى وحكمته ومشيئته لا تتضح إلا في اطراد قوانين الطبيعة. وهكذا، فإن روعة واطراد المصنوع، إنما تدل على قدرة وحكمة الصانع.
من بين سلفنا الصالح، الذين تبنوا فلسفة واقعية في النظر إلى قوانين الطبيعة والاجتماع، يأتي عالم الاجتماع، وفيلسوف التاريخ، أبو زيد، عبدالرحمن بن خلدون، الذي أسس، قبل ما ينيف على 600 سنة، واقعية سياسية واجتماعية فذة. ولقد تسلح ابن خلدون لواقعيته بأنه لا مكان للمعجزات التي انتهت بنهاية النبوة، وأن من أراد شيئا، سواء من الطبيعة أو الاجتماع، فليأخذه بسننه/ قوانينه. ومن المناسب أن نأتي بمثال لواقعيته تلك مما أثبته في (المقدمة).
عندما تحدث ابن خلدون، مثلا، عن المهدي المنتظر، بدأ على طريقة السلف، بنقد الأحاديث التي جاءت في المهدي، وبعد أن فندها (إسنادياً)، عاد لُيعْمِل (واقعيته) السياسية بالقول إن المهدي حين يخرج، لا يمكن أن يكون ذا قوة ومنعة إلا أن يكون في عصبية، فإن لم يكن في عصبية، فلا يمكن أن يكون قويا ومسيطرا وحده، إذ إن ذلك يتجاوز السنن الطبيعية والاجتماعية. وبعد أن يُذكِّر بالقانون الاجتماعي الذي أكد عليه في البداية، وهو أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، ويذكر بالحديث النبوي «ما نبي بعث إلا في منعة من قومه»، عاد ليقول إنه لما كانت عصبية الفاطميين قد انتهت، فلا وجه للقول بخروج مهدي فاطمي، وأنه إن خرج فلا بد أن يكون في منعة، (قوة كبيرة يستطيع أن يقهر بها خصومه)، «وأما على غير هذا الوجه، مثل أن يدعو فاطمي في أفق من الآفاق، من غير عصبية ولا شوكة، إلا مجرد نسبه إلى أهل البيت، فلا يتم ذلك، ولا يمكن». وهكذا، فإن المهدي، لو قدر له أن يخرج، فلن يكون خروجه بمعزل عن سنن الطبيعة وقوانين الاجتماع.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here