تقارير

النكوص والمسؤولية التاريخية

المصدر

حسام ميرو

المشهد العربي برمته، ما عدا استثناءات قليلة، يحيل إلى كوميديا سوداء، تتراكم في ثناياها الكثير من تفاصيل عبثية، وكأن ما يسمى العالم العربي يمضي تاريخياً نحو الوراء، فالتاريخ، ولئن لم يكن على الدوام تقدمياً، ولا يمضي إلى الأمام بخطى ثابتة؛ بل هو نكوصي في بعض مراحله، إلا أن النكوص المستمر يصبح إشارة واضحة إلى أن ممارسي التاريخ في مكان محدد لا يراكمون المعرفة؛ بل يتجاهلونها، وهذا التجاهل هو أحد السمات الدالة على غياب المسؤولية؛ إذ لا يمكن لمن يتجاهل عمداً ما تراكم من معرفة إلا أن يكون فاقداً للمسؤولية، فكيف الحال لو كانت تلك المسؤولية تقع في خانة المسؤولية التاريخية.

الوعي بالضرورة هو وعي احتياجات الواقع، والعمل على تلبيتها، بما يتوفر من إمكانات مادية ومعرفية وبشرية، ونقد التجربة، والوقوف على ما تخللها من أخطاء، وتجاوزها بطريقة غير قابلة للارتداد، والأخذ في الحسبان ما يستجد من متغيرات، للتقليل من عنصر المفاجأة.

وإذا كانت الدولة، بأحد أشكال تعريفها، هي التعبير عن الوعي الكلي، فإن قياس نوعية ودرجة هذا الوعي الكلي ينبغي أن تكون خاضعة لمؤشرات قابلة للقياس، بعيداً عن اللغو الإنشائي، المبني على شعارات أيديولوجية، لا تضيف أي قيمة حقيقية؛ بل تساعد على تزييف الواقع، وتصرف الانتباه عن المشكلات الحقيقية، وبناء عليه فإن ازدياد حجم الأيديولوجيا في مجتمع ما، في ظل غياب عمليات التنمية، هو دليل فشل على نهوض ممثلي الدولة في القيام بالمهام المطلوبة لحل المشكلات، وتلبية الاحتياجات، وفي مقدمتها الحاجة التاريخية إلى التقدم.

تشير إحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو» إلى أن عدد الأميين في العالم العربي في عام 2014 كان بين 70 إلى 100 مليون، أي ما يقارب نسبة تصل إلى أكثر من 25% من سكان الدول العربية، وهو ما يجعلنا نتساءل بكثير من الأسى والتهكم في الوقت ذاته حول مصداقية برامج محو الأمية التي عملت عليها معظم دو ل المنطقة منذ عقود، لكن السؤال الأكثر إيلاماً يتصل فعلياً بآليات السياسات العربية نفسها، واستمرار أسباب التأخر الاقتصادي والاجتماعي والحكومي والمؤسساتي الذي سمح باستمرار مثل هذه الظاهرة بشكل واسع وخطِر؛ بل بشكل مدمّر لطاقات المجتمع، ويستهلك من حاضره ومستقبله.

وليست صورة المستقبل بأفضل حالاً من الواقع الراهن، وليست المسألة محض تشاؤم؛ بل ترتبط بمعطيات ما تعيشه دول عربية عدة اليوم من حروب، أتت بصراعاتها السياسية والعسكرية والتناحرية والاجتماعية على المقومات المادية والعمرانية لتلك الدول، عدا عن دفع أعداد كبيرة من السكان خارج دائرة التعليم، في ظل وضع لا يحتمل أكثر من الحفاظ على مقومات الحياة المعيشية بالحد الأدنى، وهو ما يجعل مستقبل هذه البلاد محط شكوك، كما أنه يطرح سؤال المسؤولية التاريخية على النخب السياسية التي قادت زمام الأمور لعقود.

وفي تحليل أوضاع العالم العربي، ونكوص التقدم، أو الارتداد عن بعض اللحظات التي كان يمكن لها أن تشكل بدايات مهمة للتقدم على كل المستويات، في هذا التحليل ينبغي ألاّ نتجاهل الإمكانات الكبيرة التي تتوفر لمعظم الدول العربية، خصوصاً الثروات الأحفورية، والزراعية، والأيدي العاملة، ونسبة الشباب المرتفعة قياساً إلى عدد السكان، وهي مقومات لا تتوفر لبلدان كثيرة تتربع اليوم على لائحة أكثر الدول تقدماً، مع أنها تفتقد لكل هذه الثروات، وتعاني ارتفاع أعمار عدد سكانها، ونقص العمالة، ومع ذلك، فقد تمكنت من خط طريق مستقر لعمليات التنمية على الصعد كافة.

هل العرب والتقدم خطان متوازيان؟ ليس هذا صحيحاً، ولا ينبغي أن يكون قدراً، فالتقدم له أسباب واضحة، خصوصاً عندما نتحدث عن الدولة، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن قضايا ذات صلة بطبيعة الدولة نفسها، وبالكيفيات الدستورية والقانونية، وطبيعة المؤسسات، والكفاءات التي تقود، والقدرة على إحراز مستوى رفيع من الشفافية والمسؤولية، والشجاعة على مواجهة الأخطاء، والاعتراف بالتقصير، وبغير ذلك فإن التأخر سيصبح مسألة راسخة لا يمكن تجاوزها، وهذا التأخر يصبح مع الوقت حالة فوات تاريخي، تهدد أصحابها بالمزيد من التهميش عن دائرة المشاركة في إنتاج الحضارة؛ بل والغياب الكلي عنها.

husammiro@gmail.com

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here