أرشيف

الغرب: ذلك المتآمـر الأزلي

المصدر

قصة هذا المقال غاية في البساطة. إنه رد فعل على مقال آخر قرأته حديثا، ولكن رد الفعل يخلق دوامة من الأفكار التي تتسع وتتسع حتى تصل إلى مناقشة بعض من أهم عيوبنا الفكرية في المرحلة الراهنة من تطورنا. وهذا هو بيت القصيد: فقضية التنبيه إلى أخطائنا العقلية كانت هي الشغل الشاغل، والهم العظيم، لكاتب هذه السطور في العقدين الأخيرين على الأقل. وفي استطاعة أبسط موضـوع مقروء أن يكـون حافزا إلى التفكير في أعقد مشكلاتنا الفكرية والثقافية، لأن كل شيء يتوقف على العين التي تقرأ والذهن الذي يحلل.
وليسمح لي القارئ، كيما أشركـه معي في التسلسل الفكري الذي حفزني إلى كتابة هذا المقال، أن أبدأ بمجموعة من الاقتباسات التي تهيئ أرضا خصبة للمناقشة. هذه الاقتباسات مستمدة من مقـال جيد منشور في مجلة «المصـور» المصرية (عـدد الخميس 16 أبريل 1993)، ويتضمن عرضا مفيدا لكتاب حـديث للمـؤلـف المشهور «بـول كنيـدي» عنوانه: «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين». وقد استطاع كـاتب هـذا العرض أن يضع إصبعه على النقاط المهمة في كتاب «بول كنيدي»، وأن يفتح أعين القراء على تحذيرات المؤلف مـن أخطار الانفجـار السكاني، ومن التفاوت الهائل في النمو التكنـولوجي بين الدول الغنية والدول الفقيرة، كـما قدم إلى القارئ صـورة واضحة عن أهم الكتل الاقتصـادية في العالم المتقدم وفي العالم الثالث (الذي أصبح الآن يحتاج إلى تسمية أخرى، بعد أن انهار العالم «الثاني» وحاول أن يذوب في العالم الأول).
لكن الجانب الأهم بالنسبة إلى موضوعنا هـو ما يقوله مقدم الكتاب عن المؤلف حين يقدم هذا الأخير وجهة نظره عن العالم العربي والإسـلامي، إذ يبـدأ مقدم هذا الكتاب بقوله: «وعندما يناقش المؤلف في صفحـات فصـول كتابـه المختلفـة أحـوال العالم الإسلامي نجده متأثرا بالنظرة الغربية الكلاسيكية في هذا الشأن، ويخرج بروفيسور كنيدي لأول مرة عـن وقار وهيبة أستاذيته، فتصدر عنـه عبارات تحمل منطلقـا غريبـا حقا، إذ إنه يرى أن معظم الـدول العربية والإسلامية (كـذا!) لم تستعـد بعـد للقرن الحادي والعشرين، لأنها لم تصل بعـد إلا إلى القـرن التـاسع عشر…».
«ويعـود بروفيسور كنيدي إلى النعـرة الغربيـة ويبرز أن هناك انقساما بين هذه الأنظمة في العالم الإسلامي، ويضرب مثلا بعدوان العراق على الكويت عام 1990، ويكرر ما تردده الدوائر الغربية عن مستقبل المنطقة بأنها أكثر من أي منطقـة نامية أخرى تأثـرا بقضايـا الصراعـات والانقسـامات وقضـايـا الحرب..».
ليس مهما أن نورد اسم صاحب هـذه التعليقات، ويكفي أن نقول إنـه أجـاد عرض الكتاب في سائر أجـزائه الأخـرى، وأنه يقـدم في هـذا الجزء الأخـير، المتعلق بالعـالم العـربي والإسلامي، مجمـوعة من الأفكار التي تنتشر في أيامنا هذه على أوسع نطاق بين المثقفين العرب، وهذا هو الموضوع الحقيقي لمناقشتنا.
إن المتأمل لتطورنـا الفكري يشعر بأن هناك نـوعا من التناسب الطردي بين مدى تخلفنا ومدى إنكارنا حقيقة هذا التخلف. فكلما زادت أوضاعنا تدهورا، ازددنـا ميـلا إلى رفـض الاعتراف بهذا التدهـور، وازددنا شراسة في الهجـوم على من يشير إليـه، مجرد إشارة. ويصل الأمر، في الحالة التي نحن بصـددها، إلى حد الخداع الذاتي بأجلى معـانيه. فمقدم الكتاب، وهـو مثقف جيـد، يؤمن بـأن مؤلف الكتـاب كـان أستاذا متعمقا، صائب النظر، ثـاقب الفكر، عندما عرض أوضاع أمـريكا وأوروبا واليابان والصين والهند وجميع مناطق العالم، ولكنه فجأة تخلى عن أستاذيته، وعن منطقه، وربـما عن عقله، عندما عرض أوضاعنا نحن. ومـن الطبيعي أن يتسـاءل المرء: ولماذا نحن بالذات؟ ما الذي جعله يلتزم الموضـوعية مع العالم كله، ويتخلى عنها مع العرب دون غيرهم؟ إذا كانت المسألة هي خضوع المؤلف لصـور نمطية عن العرب والمسلمين سـائدة في الغـرب، أو تحامـلا عليهم في وسائل الإعلام الغربية، ألم تكـن توجد لدى الغرب دائما صـور نمطية يمكن أن تـؤدي إلى التحـامل عن الحضارة اليابانية أو الصينية أو الهندية؟ وهل نحن أخطـر من هؤلاء جميعـا حتى يحتفظ المؤلف الكبير بأستاذيتـه مع الجميع، ثم يـدوسها بقـدميـه معنا نحن بالذات؟.
مثل هذا الاستنكـار والاحتجـاج الشـديـد اللهجة ينطوي على قدر مذهل من الرضا عن الذات، في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى التطلع إلى عيوبنا والاعتراف بها دون أي تجميـل زائف. ولكـم بحـت أصوات مفكري التنوير، بجميع اتجاهاتهم، منادية بأن المشكـلات نفسهـا التي كنـا نختلف بشأنها في أواخر القرن التاسع عشر، هي التي ستظل تشغلنا على أعتاب القرن الحادي والعشرين، بل إن موقف الكثيرين إزاء هذه المشكـلات قد تدهور بـالقياس إلى ما كان عليه في أخـريات القرن الماضي، فـمازلنا نعـد حجاب المرأة مشكلة، وخـروجها إلى العمل مشكلة، ومازلنا نختلف حـول بدايـات الشهور القمرية، بما ينطوي عليه ذلك من شك في قيمة الأجهزة والمناهج العلمية، وما زلنا نشك في قيمة العلم ذاته، ونحتاج إلى جهد كبير كيما نقنع الناس بأن العالم يسير وفقا لقوانين ثابتة، وما زالت أهم أجهزة الإعلام لدينا تجد من يـدافع عن الخرافة والسحـر بكل إصرار. بل إنني أعتقـد أن مستوانـا الفكـري، في نهاية القرن الماضي، كان أرفع من أن يطرح مشكلة النقاب أو مـوضوع عذاب القبر، على النحو الذي تطرح به هذه الأيام في كثير من البلاد الإسـلاميـة. فأي منطق غريب إذن، وأي خروج عن وقـار الأستاذية وهيبتها، حين يشير باحث جاد إلى هذه الحقيقة؟
ويزداد هذا الـرضا عن الـذات وضـوحـا حـين يستنكر الكاتب حديث مـؤلف الكتاب عن الانقسام بين الأنظمـة في المنطقة التي نعيش فيها، بل إنه حين يضرب أمثلة لهذا الانقسام، كعـدوان العراق على الكـويت، وكالحرب العراقية الإيرانية، تستفحل جريمته في نظر الكاتب، فيصفه بأنه يردد «أسطوانة مشروخة» مللنا من ترديد الدوائر الغربية لها. وهكذا يفضل مثقفـونـا أن يغمضـوا أعينهم عن الحقـائق الصارخـة التي رأيناها رأي العين، واكتـوينا بنارها أمـدا طويـلا، وكأن الوئام والانسجـام والهدوء والاستقـرار هـي السـائدة في عـالمنـا، وكأن كل الاضطرابـات التي شهدناها في العقدين الأخـيرين، والتي أرجعتنا سنين طويلة إلى الـوراء، كأن هذه كلها أكذوبة كبرى، وأسطوانة مشروخة تفتري بها علينا الدوائر الغربية. وهنـا نصل إلى سمة أخـرى أصبحت تشيع على نحو متزايد بين مثقفينا في السنوات الأخـيرة، وهي سمة الشك الأبدي في كل ما ينتمي إلى الغرب، تلك الكلمـة التي تتراكـم عليهـا المعاني السلبية إلى حـد يوشك أن يجعلها مرادفـة للشيطان.
البحث الآلي عن التضاد مع الغرب، أو معاناته بلا تفكير، يمكن أن يـوصل إلى تشوه فكـري مذهل، كـذلك الذي رأينـاه في إنكار حقائق نعيشها طوال سنوات عديدة لمجـرد أنها جاءت على لسان مؤلف ينتمي إلى الغرب، بل وتوجيه أشد ألوان اللوم والتقريع إليه لأنه أشار إلى ما نعـرفه جميعا عن أنفسنا. وأحسب أن هـذا التـوجه الفكـري ضد الغرب، بطريقة آلية بحتة لا تعمل حسابا لخصوصية الموقف ولطبيعـة العـوامل المتـداخلة فيه، كـان هـو أساس ذلك التأييد المستغـرب الـذي لقيه الغزو العراقي للكـويت من كثير من المثقفين العرب الذين كنـا نرى فيهم، قبل ذلك تجسيـدا للـوعي الناضج. وهكذا يبدو قطاع لا يستهان به من المفكرين العرب على استعـداد لإنكـار طلوع الشمس في الصباح لو جاءت هذه الحقيقة على لسان غربي.
ومن وراء هذا كله تطل فكـرة المؤامرة الغـربيـة الأبدية على العرب والإسلام، وهي فكـرة أقنعنا بها أنفسنا واسترحنا إليها، لأنها تؤدي في حياتنا مجموعة من الوظائف المفيدة: فهي تعفينا من مواجهة عيوبنا وبذل الجهد اللازم من أجل إصلاحها، ما دمنا على الدوام ضحايا لتلك المؤامرة التي هي الشغل الشاغل، والهم الأزلي، لـذلك العالم الواسع الـذي نطلق عليه اسم «الغرب».
وهي تعطينا إحساسا جميلا بالأهمية. فنحن، وليس غيرنـا، هـدف تلك المؤامـرة التي يشغل بها الغرب نفسه ليل نهار. أجل، نحن، وليس اليابان أو الصين أو العالم الـذي يوشك على اللحـاق بـالغـرب وتضييق الخنـاق عليـه في كـل الميادين، نحـن فقط، من دون مجتمعات البشر الـذين نخيف الغـرب ونحرم عيـونه النوم. هذا الإيـمان الـواسع الانتشار بـوجود مؤامرة كونية يحيكها الغـرب لنا دون غيرنا، يدغدغ مشاعر الجـماهير ويجلب لها سعادة لا تدانيهـا سعادة المكيف أو المخدر فكل شيء لدينا على ما يرام، والخطأ كله خطأ الغرب المتآمر، وها هي ذي الفرصة تسنح لكي نقتص منـه في ذلك الثأر التاريخي الـذي لا تبدو له نهاية. وإني لأذكر، في تجربتي الشخصية، أن كل من يتحـدث بهذه النغمة في أي محاضرة أو ندوة تقـام في بلـد عربي يقابل بتصفيق الجماهير واستحسـانها بلا حـدود، على حين أن من يحاول أن يـوقظ في الناس روح المسؤولية، ويفيقها من خدر «المؤامرة» الموهومة، يبعث في أي جمهور عـربي شعـورا بـالقلق وعـدم الارتياح.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here