أرشيف

الديمقراطية والديكتاتورية في أوروبا

المصدر

تأليف: شيري بيرمان

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

شهدت معظم الدول الأوروبية أنظمة استبدادية عبر تاريخها، وحدثت نزاعات عرقية ودينية كبيرة، ثم تحولت إلى الديمقراطية التي جلبت معها الأمن والسلام والرخاء لعقود طويلة؛ لكن تشهد هذه العملية تراجعاً وسط تصاعد التيارات الشعبوية واليمينية. يأخذنا هذا الكتاب في رحلة لقراءة الاستبداد والديمقراطية في أوروبا منذ ما يُسمى النظام القديم إلى يومنا هذا.

في نهاية القرن العشرين، اعتقد الكثيرون أن قصة التطور السياسي الأوروبي قد وصلت إلى نهايتها. بدأت الديمقراطية الحديثة في أوروبا؛ لكنها تنافست على مدى مئات السنين مع أشكال مختلفة من الديكتاتورية. الآن، على الرغم من ذلك، كانت القارة بأكملها في المعسكر الديمقراطي لأول مرة في التاريخ؛ لكن في غضون عقد من الزمان، بدأت هذه القصة تتغير. تراجعت بعض الديمقراطيات الأحدث في القارة مرة أخرى نحو الديكتاتورية، بينما بدأ المواطنون في العديد من الديمقراطيات القديمة في التشكيك في أداء الديمقراطية وحتى شرعيتها. وبالطبع لا يقتصر الحصار على الديمقراطية في أوروبا وحدها. ففي جميع أرجاء العالم، تمت الاستعاضة عن التفاؤل الهائل الذي رافق الموجة الديمقراطية في فترة ما بعد الحرب الباردة بالتشاؤم. بدأت العديد من الديمقراطيات الجديدة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا في «التراجع»، بينما تحول الربيع العربي بسرعة إلى شتاء عربي. ودفع انتصار دونالد ترامب الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان يمثل تهديداً لمستقبل الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة. في الواقع، من الشائع اليوم بشكل متزايد أن يزعم القادة والمفكرون والمعلقون وغيرهم أنه بدلاً من الديمقراطية، فإن بعض أشكال الديكتاتورية أو الديمقراطية غير الليبرالية هي موجة المستقبل.

من خبرتها في الكتابة والبحث عن الديمقراطية، والاستبداد، والشعبوية، والفاشية، وتاريخ اليسار، والسياسة الأوروبية، تتبع شيري بيرمان في كتابها هذا تاريخ الديمقراطية الطويل منذ تشكلها في مهدها الأوروبي. توضّح أنه في الواقع، فشلت كل موجة ديمقراطية تقريباً في أوروبا في البداية، إما لأنها انهارت على نفسها وإما لأنها استسلمت لقوى رد الفعل.

قرنان من الاضطرابات

تأخذنا بيرمان، أستاذة العلوم السياسية في كلية بارنارد بجامعة كولومبيا، في صورة بانورامية عبر قرنين من الاضطرابات: الثورات والفاشية والحرب الأهلية، وأخيراً ظهور أوروبا الديمقراطية الليبرالية في حقبة ما بعد الحرب.

يبدأ تحليل هذا الكتاب في القرن السابع عشر، خلال فترة النظام القديم، عندما بدأت الدول الحديثة في الظهور في أوروبا.

وتعلق الكاتبة: «كان النظام القديم أوضح شكل من الديكتاتورية، كان يحمل دلالة سببية للتطور الديمقراطي: توقيت وطبيعة وسرعة التنمية الاقتصادية، مستويات عدم المساواة الاقتصادية، قوة الدول الوطنية؛ درجة التنوع العرقي والديني، وأكثر من ذلك.

وتضيف: «بعد نصف قرن من النجاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي غير المسبوق، تعاني أوروبا مرة أخرى توعكاً سياسياً عميقاً إضافة إلى اضطراب سياسي. ركزت معظم التعليقات على مشكلات أوروبا الحالية على الأسباب المعاصرة مثل: العولمة والتغير التكنولوجي والأزمة المالية والتقنية، والتكنوقراطية والهجرة وتدفق اللاجئين. يُظهر هذا الكتاب، مع ذلك، أن التحليلات قصيرة المدى تسيء فهم ما يجري أو تبالغ في تبسيطه على الأقل. على وجه الخصوص، يساعدنا المنظور التاريخي المعتمد في هذا الكتاب على رؤية جذور مشاكل أوروبا الحالية في تحلل الأسس التي بنيت عليها الديمقراطية الليبرالية بعد مآسي فترة ما بين الحربين العالميتين».

تاريخ الاستبداد في أوروبا

تقول الكاتبة: «في نوفمبر/تشرين الثاني 1989، كانت برلين هي المكان المناسب. كان التاريخ يصنع. كانت الديكتاتوريات تنهار، وكما قال جورج بوش الأب: أمريكا انتصرت في الحرب الباردة. كان القرن العشرين الدموي، بعنفه الرهيب ومعاركه الأيديولوجية العملاقة، يقترب من نهايته. كانت الديمقراطية الليبرالية منتصرة، وكان الغرب على وشك أن يقود الطريق نحو التقدم والازدهار. كانت أوروبا، بالطبع، مبتهجة بشكل خاص. أدى سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية إلى جانب انهيار الديكتاتوريات في جنوب أوروبا خلال العقد الماضي إلى جعل القارة أكثر اتحاداً من أي وقت مضى.

«في نهاية القرن العشرين، كان الرأي القائل إن أوروبا الموحدة في طريقها إلى أن تصبح القوة العظمى العالمية التالية، والنموذج لنوع جديد من النظام السياسي المسالم والمزدهر وما بعد القومية، منتشراً وموضحاً مدى تقلب التاريخ. اختفى اليوم تفاؤل عام 1989 منذ زمن بعيد، وحلت محله مخاوف من دخول أوروبا والغرب فترة من التدهور. وتعثرت الديمقراطية الليبرالية في أوروبا الشرقية وتهددها الشعبوية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ولم يعد العلماء والمعلقون يتحدثون عن انتصار الديمقراطية الليبرالية، ونهاية التاريخ، وسياسة ما بعد القومية، ولكن القلق بدلاً من ذلك بشأن الديمقراطية غير الليبرالية، والاستبداد العالمي، والقومية الخبيثة، وتفكيك الديمقراطية. كما حالة فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري الحالي الذي بدأت حياته السياسية في عام 1989 كمعارض للديكتاتورية، ولكنه تحول منذ ذلك الحين إلى معارضة للديمقراطية، أعلن مؤخراً: لقد انتهى عصر الديمقراطية الليبرالية. كيف وصلنا من هناك إلى هنا؟ كيف يمكننا فهم مصير الديمقراطيات الجديدة اليوم والمشكلات التي تواجه الديمقراطيات القديمة؟ ما الذي يجعل الديمقراطية الليبرالية تعمل بشكل جيد في بعض الأماكن وفي بعض الأوقات، ولا تعمل جيداً في أماكن أخرى؟ هذه أسئلة ذات أهمية نظرية وعملية قصوى.

يعتمد هذا الكتاب على عمل المؤرخين وعلماء السياسة والمحللين المعاصرين للديمقراطية، ويهدف إلى استكماله، وهو يرتكز على وجهة نظر قالها العالم الأمريكي كارل ساغان، إن المرء يجب أن يعرف الماضي حتى يفهم الحاضر. وهو يدمج الأسئلة التي يتم طرحها حول الديمقراطية اليوم مع إعادة النظر في التطور السياسي الأوروبي؛ من أجل الحصول على فهم أفضل عن كيف ولماذا تطورت الديمقراطيات والديكتاتوريات في الماضي. ومن خلال إعادة النظر في كيفية تطور الديمقراطيات والديكتاتوريات في الماضي، ستضيف منظوراً تاريخياً سيمكننا من فهم ما يجري في العالم اليوم بشكل أفضل. أوروبا هي المكان المثالي لإعداد مثل هذه المعاينة، فهي المكان الذي ولدت فيه الديمقراطية الحديثة، وهو حالياً موطن لمجموعة كبيرة من الديمقراطيات المتنوعة.

الديمقراطيات والدكتاتوريات

إضافة إلى ذلك، كانت أوروبا أيضاً تعد موطناً للديكتاتوريات من جميع الأنواع الملكية والعسكرية والشعبية والهجينة والفاشية والاشتراكية. علاوة على ذلك، ظهرت هذه الديمقراطيات والديكتاتوريات في أوقات مختلفة وفي سياقات اقتصادية واجتماعية مختلفة. لا يغطي الكتاب كل بلد أوروبي في العمق، ولكنه يركز بدلاً من ذلك على البلدان التي تتيح اختلافات في بعض العوامل الحاسمة التي تؤثر في التنمية السياسية ويجب مراعاتها، بما في ذلك طبيعة وتسلسل بناء الدولة والأمة والديمقراطية والتوقيت والنوع والسرعة للتنمية الاقتصادية، ودرجة التنوع العرقي والديني واللغوي. يغطي العمل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وشرق ووسط أوروبا على نطاق واسع، وينظر في الدول الأوروبية الأخرى لفترة وجيزة، ولا يدخل روسيا في التحليل إلا عندما يؤثر تطورها السياسي بشكل مباشر في تطور الدول الأوروبية الأخرى، على سبيل المثال، بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.

فهم التطور السياسي

استناداً إلى الاعتقاد بأننا بحاجة إلى معرفة الماضي؛ لفهم الحاضر، ترى الكاتبة أن الديمقراطية والديكتاتورية في أوروبا تطرح الأسئلة التي يطرحها الناس حول التطور الديمقراطي والانحلال اليوم، وتضعها أمام وجهة النظر التاريخية. تتمثل إحدى الميزات الواضحة للمنظور التاريخي في أنه بدونه لا يمكننا معرفة ما إذا كانت المشاكل التي تواجه الديمقراطية اليوم مميزة للفترة المعاصرة أو هي خصائص مشتركة إلى حد ما للتطور السياسي. في الواقع، إحدى الحجج التي يقدمها هذا الكتاب هو أن الكثير من التعليقات على حالة الديمقراطية اليوم مبنية ضمنياً على افتراضات خاطئة حول كيفية تطور العملية السياسية في الماضي.

يحاجج هذا الكتاب بأن أفضل طريقة لفهم التطور السياسي وقد أخذها على أنها أشبه بسباق طويل: قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تحلّ بعض التحولات، وتتضح آثار القرارات أو الديناميكيات المتميزة. يجب أن تأخذ أي محاولة لفهم مصير تجربة ديمقراطية معينة في الاعتبار ليس فقط الظروف المحيطة بالانتقال، ولكن أيضاً الموروثات التاريخية العميقة من الأنظمة السابقة التي يجب أن تصارع كل محاولة معها.

يمكن أن يساعدنا فهم كيفية تطور هذه العملية في أوروبا في الماضي على فهمها في أجزاء أخرى من العالم وخلال فترات أخرى.

بنية الكتاب

يركز الفصل الأول والثاني على الفترة الحديثة المبكرة، ويعاينان نوع النظام السياسي الذي هيمن على أوروبا خلال الفترة الملكية والديكتاتوريات الاستبدادية بشكل خاص، إضافة إلى ظهور الدول الحديثة. ينصب التركيز على فهم السمات الرئيسية للنظام الفرنسي القديم، مع مقارنات بالتطورات في أجزاء أخرى من أوروبا. ويتناول الفصل الثالث بدايات بريطانيا الحديثة وخاصة الحروب الأهلية وتغييرات الأنظمة والثورة المجيدة في القرن السابع عشر، ويحلل كيف يعكس الصراع البريطاني في القرن السابع عشر الجهود السابقة لبناء الدولة والأمة، وكيف أن صراعات القرن السابع عشر أرست الأساس لمسار سياسي سلمي وتدريجي بشكل غير عادي ستتبعه بريطانيا منذ القرن الثامن عشر فصاعداً.

يعاين الفصل الرابع الثورة الفرنسية، ويحلل سبب تعرض النظام الملكي الفرنسي للانهيار بحلول نهاية القرن الثامن عشر، ولماذا حدثت ثورة عندما انهارت بدلاً من تحول أقل اضطراباً. كما يعاين لماذا أدت التجربة الديمقراطية الحديثة الأولى التي أنتجتها الثورة إلى إرهاب الدولة وديكتاتورية عسكرية شعبوية بدلاً من الديمقراطية الليبرالية الموحدة.

يركز الفصل الخامس على عام 1848، نقطة التحول الرئيسية التالية في التطور السياسي في أوروبا. خلال هذا العام اجتاحت موجة ديمقراطية معظم أنحاء أوروبا وأطاحت بسرعة الديكتاتوريات الملكية. لكن بعد عامين تقريباً، انحسرت هذه الموجة الديمقراطية وعادت أوروبا إلى الحكم الديكتاتوري. يشرح هذا الفصل سبب نجاح هذه الموجة الديمقراطية ثم فشلها بشكل مذهل، مع التركيز على الدور الذي تلعبه الصراعات الطبقية والطائفية في تحديد النتائج السياسية.

تدرس الفصول الثلاثة التالية التطور السياسي الأوروبي خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مع التركيز على التطور والنزاع المتزايد بين القومية والديمقراطية. ويبحث الفصل التاسع في النضال؛ من أجل الديمقراطية في فرنسا ما بين الحربين العالميتين. يتناول الفصل العاشر التطور السياسي البريطاني خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. يحلل الكاتب سبب بقاء بريطانيا مستقرة إلى حد ما خلال القرن التاسع عشر عندما اتسمت بقية أوروبا بالاضطراب.

يعود الفصل الحادي عشر إلى إيطاليا، ويسأل لماذا انهارت الديمقراطية الإيطالية بهذه السرعة بعد الحرب العالمية الأولى. يبحث في أسباب عدم الاستقرار السياسي والعنف الذي شهدته إيطاليا بعد عام 1918، والأسباب التي جعلت موسوليني والفاشيين قادرين على الاستفادة من مشكلات الديمقراطية. ويركز الفصل الثاني عشر على جمهورية فايمار ما بين الحربين. ويحقق في أسباب انهيار الجمهورية والأسباب التي جعلت هتلر والنازيين المستفيدين النهائيين منه. ويركز الفصل الثالث عشر على عدم الاستقرار والعنف اللذين ابتليت بهما إسبانيا خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويسأل عن سبب تمكن القوات المسلحة التقليدية من الاحتفاظ بقوة هائلة في إسبانيا، بينما كانت سيطرتها تتضاءل في معظم أنحاء أوروبا. يحلل الفصل أيضاً سبب فشل التجربة الديمقراطية الإسبانية بين الحربين، ولماذا أدى هذا الفشل إلى حرب أهلية وديكتاتورية محافظة تقليدية نسبياً بدلاً من الفاشية. تتناول الفصول الأربعة التالية الديمقراطية والديكتاتورية في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

الدروس الحاسمة

يتناول الفصل السابع عشر الانتقال إلى الديمقراطية في شرق ووسط أوروبا، ويلخص الفصل الأخير نتائج الكتاب ويناقش انعكاسات التجربة الأوروبية على المناقشات المعاصرة حول التحول الديمقراطي. ويرسم العديد من الدروس الحاسمة التي يقدمها التاريخ الأوروبي حول تطور الديمقراطية والديكتاتورية، ويكرر المساهمات التاريخية لكل منظور حول التنمية السياسية التي يمكن أن توفرها لأولئك الذين يناضلون لمواجهة تحديات الديمقراطية في أوروبا وأجزاء أخرى من العالم.

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here