أرشيف

الأنا ما بين قناع وواقع

المصدر

الحياة مليئة بالدروس، ولكن حين تتغلب علينا الأنا وننظر إلى أنفسنا على أننا لسنا بحاجة وأن ما لدينا من علم ومعرفة وحكمة يمكّننا من الحكم والتقدير واتخاذ القرارات التي نكون بحاجة إليها لحل مشاكلنا أو مواجهة التحديات التي تقابلنا، نكون قد جنينا على أنفسنا ومنعنا عنها مصدرًا غزيرًا من الخبرات والمعرفة! ولكن أحيانًا تكون الإجابة التي نطلبها من الآخرين تكمن في داخلنا، هذا إذا كانت لدينا الشجاعة الكافية للسماح لصوت الحكمة أن يظهر ويقودنا. تعارض؟ ليس تمامًا.
سأستخدم القصة التالية من التراث الصيني القديم كمدخل إلى الموضوع: يحكى أنه قبل زمن بعيد، انتشر بين جميع أنحاء البلاد صيت رجل حكيم كان يعيش منعزلًا في منزل فوق قمة جبل شاهق مما يصعب الوصول إليه. وذات يوم قرر شاب في إحدى القرى البعيدة أن يشد الرحال إليه، ويقوم بتلك الرحلة الصعبة حتى يصل إلى ذاك الحكيم، وبعد أن قضى فترة طويلة في السفر الشاق تمكن من الوصول إلى تلك البقعة، وما إن وجد نفسه أمام الباب حتى قرعه وإذا بخادم عجوز يفتح له الباب ويحييه. هنا قال الشاب: «لقد قطعت مسافات طويلة وتسلقت صخورًا وعرة، حتى أحظى بمقابلة مع الرجل الحكيم». هنا ابتسم العجوز وقاده إلى الداخل، وأخذ يدور به في جميع غرف المنزل، والشاب يتفحص كل ركن وكل زاوية على أمل أن يلقى الرجل الحكيم، إلى أن انتهت بهما الجولة إلى باب المنزل من جديد! قال الشاب: «ولكن.. أردت أن أقابل الرجل الحكيم»! ابتسم العجوز وأجابه: «وقد فعلت! إن كل شخص قد تقابله في الحياة حتى ولو كان إنسانا عاديا، انظر إليه وإلى كل من تقابله بغض النظر عما قد يوحيه إليك مظهره الخارجي، على أنه رجل حكيم، إن قمت بذلك فعندئذ مهما كانت المشكلة التي جلبتها معك هذا اليوم فسوف تحل».
لاحظ أيها القارئ، أنه في الحياة.. في حياتك وفي حياة كل منا، نجد أن أكبر التحديات والتي تتمحور حول عقبات تتشكل في كل مرحلة منها، والمطلوب منا كي نستمر أن نتغلب عليها، وفي القصة كان الشاب قادرًا على التغلب على أصعب الطرق وتحمل مشاق الرحلة بكل أشكالها، لكنه لم يحاول أن يتجاوز نظرته إلى نفسه.. إلى «الأنا» في داخله! لقد كان الخادم العجوز هو نفسه الرجل الحكيم، لقد كان محاصرًا ما بين نظرته إلى الآخر، النابعة من نظرته إلى نفسه، ولم يرَ من كان أمامه، ولو أنه فعل لكان وفر على نفسه الرحلة وكل ما حملته من صعوبة ووقت وجهد! الإجابة تكمن في أن نخلع ذاك القناع الذي صنعناه بأيدينا لنرى أنفسنا على حقيقتها من الداخل، وسوف نرى تواضع مستوى معرفتنا أمام الآخر أيّ آخر نقابله.. ولو أدركنا مغزى هذا الدرس وقمنا بتطبيقه على مشاكلنا ربما تمّ حلها دون أي تعقيدات ومضيعة للوقت والجهد!
التعامل مع الأنا المتضخمة أمر غير صحي ومرهق حقًا.. لأن سعي «الأنا» الدؤوب إلى الانتباه والقوة والسيطرة يقوض الهدف الذي نريد أن نحققه، بغض النظر عن ماهية هذا الهدف! يقول هنالك مقولة تفيد بأنه: «كلما زاد حجم رأس الرجل كان من السهل ملء حذائه»! عادة ما يسعى غالبية الناس كي يكونوا أفضل، ولكن هنالك من يطمع ويسعى إلى أن يكون الأفضل، الأغنى، الأذكى، الأسرع، الأقوى سلطة والأوسع نفوذا… إلخ، وبهذا يكون أمثال هؤلاء محاطين بشعور دائم بالتعب والشك الذاتي وعدم الرضا.. هم ليسوا بحاجة إلى «أنا» مغرورة أو متضخمة، بل هم بحاجة فقط إلى أن يكونوا «هم» على الصورة الحقيقية وليس كما يتصورونها.
الغرور لا يحب المفاجآت أو التغيرات، بل يحب أن تبقى الصورة التي تبث كما هي وأن يتعامل الآخر معها على هذا الأساس؛ بمعنى النسخة المثالية التي يعكسها الغرور، وإن تم وحدث ما يهدد هذا الأمن فإن أداة التهديد سواء كانت فردًا أو شيئًا تُحول إلى عدو يجب أن يُحارب، وهنا تبدأ المعارك التي لا تنتهي لحماية الصورة الهشة التي يعكسها الغرور للفرد عن ذاته.
المؤسف حقًا، أن تلك الصورة لا يحملها سوى الفرد عن نفسه، ويحارب للحفاظ على شيء غالبا ما يكون غير ذي قيمة عند الآخرين! وبهذا تعمى «الأنا» المريضة، «أنا» القناع، عن الواقع الذي تجاهد لتفرض وجودها فيه… كل ما تراه «الأنا» عن إمكاناتها، علمها، ثقافتها، مركزها، تفكيرها.. تريد أن يراه الآخرون كذلك.. يعتقدون أن رؤيتهم للعالم هي العالم! وعند أي نقد أو تساؤل أو تشكيك سوف تكون ردة الفعل مبالغًا فيها حد الشراسة أحيانًا، فصاحب «الأنا» المتضخمة بنى سمعته على سمة مثالية، وإن لم تعجب الناس من حوله، فسيشعر أن كيانه بالكامل في خطر وربما ينهار.
العلم والمعرفة كما ينبعان من عدة مصادر، هكذا يصبان أيضًا في عدة مصادر ويغزوانها، والحكمة تتراكم وتنمو بالخبرات والتفكير والتحليل والتدبر، وما الكمال إلا لخالق كل ما يحتويه هذا العالم من غزارة العجائب وروائع الغرائب. فلننظر إلى دواخلنا ونعطيها حق مكانتها دون زيادة أو نقصان، ولننظر إلى كل من هم حولنا على أنهم أوعية علم وفكر ومعرفة، ولنتواضع ونسأل ونستأذن، ثم.. نغرف، فقد تكون الإجابة قريبة جدًا إلينا ونحن نبحث عنها في أعالي الجبال!
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here