أرشيف

ابن خلدون: وعي الناس مرتبط بنوع وجودهم الاجتماعي

المصدر

ثمة نظريتان فلسفيتان في العصر الحديث، تفسران تطور المجتمعات. الأولى: النظرية المثالية التي تقول بأسبقية الفكر على المادة، ومن ثم ترى أن تطور المجتمعات مرهون بتطور الأفكار التي تقودها. بمعنى أن المجتمعات تقودها الأفكار، وتطورها الأفكار الجيدة.
أما الثانية فهي النظرية الماركسية التي تقول بأسبقية المادة على الفكر، ومن ثم تربط تطور المجتمعات بتطورها الاقتصادي أولا، ثم تتطور الأفكار لاحقاً، تبعاً للتطور المادي.
الغريب أن ينظر إلى الماركسية على أنها أول من نظر لربط وعي المجتمعات وتطورها بأوضاعها الاقتصادية، بينما سبقتها الخلدونية بما ينيف على أربعمائة سنة.
يقول المرحوم محمد عابد الجابري في كتابه (نحن والتراث): «إن ابن خلدون يكاد يعبر عن الفكرة المركزية في التفسير المادي للتاريخ، الفكرة التي تربط وعي الناس بوجودهم الاجتماعي».
ولقد استخلص الجابري رأيه هذا من حديث ابن خلدون في (المقدمة) عن العلوم والصنائع، وتطورها في الحضارة الإسلامية. لقد أدرك ابن خلدون أن النشاط الاقتصادي سابق على النشاط الفكري، وأن ضمان الحاجيات الضرورية للعيش، ثم الانتقال إلى الكمالات في العيش، شرط لظهور الفكر النظري.
متى يتطور الاقتصاد، ومن ثم تتطور العلوم والصنائع؟
وفقاً لابن خلدون، فإن قيام دولة موحدة مركزية قوية شرط لقيام مجتمع قوي متماسك، وقيام هذا المجتمع، أو ازدهار العمران، كما هي اللغة الخلدونية، شرط لقيام العلوم والصناعات. ومن ثم، يمكن القول إن الحضارة، وتقدم الصناعات والعلوم مرهون بالعمران الحضري، لا بالعمران البدوي، الذي يقتصر فيه على الضروري من المعاش، مما لا يسمح بتطور المجتمع، وقيام العلم والصناعة فيه.
يريد ابن خلدون أن يقول إن قيام العلوم، وتطور الصناعة، ظواهر اجتماعية، مثلها مثل أي ظواهر اجتماعية أخرى، تخضع لـ»طبائع العمران»؟
لقد استقرأ ابن خلدون تطور العلوم والصنائع إلى عهده فوجد أنها تنمو، بالضرورة، في مجتمع متمدن، تقوم فيه دولة قوية مسيطرة، وينعم فيه المجتمع بمستوى معقول من الرفاه الاقتصادي. ولأنه فيلسوف تاريخ، وليس مؤرخاً فحسب، فلم يقف عند الملاحظة والاستقراء فقط، بل انصرف في تفكيره إلى البحث عن الأسباب الموضوعية وراء انتعاش العلوم والصنائع في المجتمعات المدنية الحضرية، فوجد أن تلك العوامل لم تكن إلا الظروف الاقتصادية المناسبة في مجتمع مدني.
خصص ابن خلدون فصلاً في (المقدمة)، جعل عنوانه (فصل في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري)، قال فيه «والسبب في ذلك أن الناس، وما لم يستوف العمران الحضري، وتتمدن المدينة، إنما همهم في الضروري من المعاش، وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدنت المدينة، وتزايدت فيها الأعمال، ووفت بالضروري وزادت عليه، صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش». ومن ضمن كمالات المعاش «الصنائع والعلوم»، وبالجملة، كما يقول الجابري «الاشتغال بالأمور الفكرية».
يقول ابن خلدون ما معناه: حسنوا ظروف الناس، يتقدم وعيهم. إنه يسبق الماركسية وماركس حين قال: «ليس وعي الناس ما يحدد وجودهم، بل وجودهم هو الذي يحدد وعيهم». ومن ثم، فإن العلوم والصنائع لا توجد وتتطور إلا في مجتمع تطور اقتصادياً، بانتقاله من «اقتصاد الضروري في المعاش»، أو اقتصاد الكفاية، إلى «اقتصاد الكمالات»، الذي يتيح لأفراده الترقي في الفكر النظري، ومن ثم إجالة الذهن في إجادة العلوم والصناعة. يريد ابن خلدون، ومن بعده ماركس وانجلز أن يقولا: لا تطلبوا من مجتمع فقير متخلف، لا تسوسه سلطة موحدة قوية، أن يبدع أفراده علوماً ونظريات، وينتجوا صناعات، فهو يكون حينها مشغولاً بتحصيل الضروري من المعاش الذي يقيم أوده، ولا وقت لديه للتفكير والاهتمام في الأمور النظرية.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here