أرشيف

إنه وعد أب وما أعظمه من وعد

المصدر

مرت علي دراسة قدمت في كتاب بعنوان «أمريكا بلا أب: مواجهة مشكلتنا الاجتماعية الأكثر إلحاحًا»، وهي عبارة عن استكشاف مقنع ومثير للجدل للآباء الغائبين وأثرهم في الأسرة. يتحدث المؤلف في الدراسة عن «اليتم الحديث»، بمعنى غياب الآباء عن أبنائهم، واعتبره «الاتجاه الديموغرافي الأكثر ضررًا لهذا الجيل» كما ذكر، وأضاف أنه السبب الرئيسي للضرر الذي يصيب الأطفال، والمحرك الذي يقود المشاكل الاجتماعية الحالية؛ من الفقر إلى الجريمة إلى حمل المراهقات إلى إساءة معاملة الأطفال إلى العنف المنزلي، وكل ذلك -حسب رأيه- من بين القضايا الاجتماعية الرئيسة في عصرنا بسبب هروب الآباء من حياة أطفالهم. السؤال هنا هل هذه الظاهرة في أمريكا أو الغرب فقط؟ ماذا عن عالمنا العربي والإسلامي الذي تأثر بكل سلبيات التغييرات التي طرأت علينا كمجتمعات تحت ما يسمى المدنية والتحضر؟
ولكن في الوقت نفسه يدخل إلى المشهد شعاع من الأمل مع قصص تدفئ شريان القلب وتعيد إحياء الأمل، ليست رواية وليست عملا أدبيا ولكنها قصة واقعية من بين آلاف القصص التي تمر علينا، لتبرهن لنا أهمية موقع الأب وتفانيه في الحرص على حياة أبنائه. شدت انتباهي مؤخرا قصة تداولها الإنترنت، ولكن أردت كعادتي أن أتأكد من المصدر، ووجدته في كتاب من سلسلة «حساء الدجاج»، كتب تحتوى على قصص مرت على المؤلفين من خلال المحاضرات التي كانا يلقيانها حول الولايات تحت مواضيع مختلفة ولكن جلها يدور حول كيفية عيش الأحلام، وخلق المزيد من الفرح في حياة الناس. جمعت هذه القصص على مدى أكثر من 30 عاما، وكان لهذه السلسلة من الأثر الكبير بحيث صنفتها إحدى أكبر الصحف الأمريكية «أمريكا اليوم» أحد الكتب الخمسة الأكثر تميزًا وتأثيرًا في ربع القرن الماضي. ومن هنا وصلت إلى أن القصة لم تكن من خيال الكاتب بل من خلال ما وصله من قصص حقيقية رويت لهما من قبل شاهد عليها أو من عاش الحدث فعلا.
تدور أحداث القصة في السابع من ديسمبر عام 1988، حيث كان صباحا هادئا لم يظن أحد في «سبياتكي» شمال أرمينيا، أن هذا اليوم سيكون في قسوة وتأثير المجزرة التي حدثت للأرمن قبل أكثر من نصف قرن من قبل الدولة العثمانية، والتي لم يعترف بها رسميا من قبلهم إلى يومنا هذا، المهم أن زلزالا ضرب القسم الشمالي الغربي من أرمينيا ما أسفر عن مقتل أكثر من 30 ألف شخص في أقل من أربع دقائق.
في خضم الدمار والفوضى، ترك أحد الآباء زوجته بأمان وهرع إلى مدرسة ابنه الذي ودعه قبل سويعات قليلة، ووصل إلى الموقع ليكتشف أن المبنى تحول إلى أنقاض!. لنتخيل ما دار في ذهنه، ماذا كان ليدور في ذهن أي فرد منا لو أنه كان في الموقف نفسه؟ هل كانت الصدمة ستصيبنا بالشلل.. الذهول.. اليأس؟. في حالة هذا الأب أفاق من الصدمة بسرعة واتجه إلى حيث قدر أن فصل ابنه يقع، ثم بدأ بالحفر.. أي أمل كان يحمله بين طيات قلبه ليثابر على هذا لساعة.. اثنتان.. أربع.. عشرة.. كلا، بل ستة وثلاثين ساعة، لم يتوقف رغم نداءات كل من كان حوله بأن يتوقف، خاصة من رجال الدفاع المدني، الذين كانوا حريصين على ألا يتعرض لأي حادث من جراء الحفر ومخاطر أن يقع هو تحت الردم، استمر رغم أنه لم تكن هنالك أي علامة على الحياة، كل ما كان يعرفه أنه وعد بأن يكون دائما هناك من أجل ولده، كان هذا الوعد هو الذي حرك يديه وحفز روحه.
ثم فجأة سمع صوتا ضعيفا يأتي من تحت إحدى القطع الكبيرة من الجبس، كان نداء لطفل يطلب المساعدة، صرخ لقد وجدت شيئا هنا، وجاء الناس لمساعدته، وأزالوا طبقة أخرى من الحطام، وهنا وجد ابنه مع ثلاثة عشر من الأطفال غيره، تم انتشالهم من تحت الأنقاض وإسعافهم بالأكسجين والماء. وبينما كان رجال الدفاع المدني يجهزونهم لنقلهم إلى المستشفى، قال الصبي لأصدقائه: «ألم أخبركم بأن والدي لن يتركني أبدًا»، إنه وعد أب وما أعظمه من وعد!. توضح هذه القصة التي نعتبرها في ذمة الراوي، حب الأب لطفله، نحن نعلم، ومن خبرات مرت على الكثير منا، مدى حب الأب وتفانيه من أجل أن يعطي الحياة الكريمة والآمنة لأولاده. لقد توفي أبي من سنوات عديدة، وما زلت أفتقد حبه وحنانه في حياتي، أفتقد حتى توبيخه وعقابه لي، افتقد أدمعه في آخر لقاء كان لي معه قبل أن يودعنا ليعود إلى أرض الوطن، وأفتقد حبه غير المشروط وأحترق شوقا كي أكون معه ولو للحظات.. هذا الشوق كشوق الجزء إلى الكل بعض الانفصال.
نعود لموضوع المقدمة، وأهمية تقدير جميع العلاقات الأسرية بما في ذلك العلاقات التي كانت مع من تركنا ورحل إلى دار الآخرة، يجب أن نحرص على تدفق المحبة ونسعى لخدمة الجميع من أفراد الأسرة وحتى الممتدة منها. هنالك الكثير من الحجارة التي قد نجدها يوما فوقنا أو فوق من نحب، بغض النظر عن حجمها أو صغرها، يجب أن نسعى إلى إزالتها حتى ننقذ من نحب، وليس بالضرورة أن تكون الأنقاض حجارة، قد تكون أنقاضا وخراب أرواح.. صخرة ندم.. صخرة يأس.. صخرة ضياع.. صخرة عبودية لغير الخالق. نحن هنا كما نركز على أهمية الأسرة نركز على قائد ورأس الأسرة «الأب»، فإن قدر له الرحمن أن يرى ويثمن المسؤولية التي ألقيت على عاتقه، لن نسمع بإذن الله عن ضياع أجيال. الأب هو كالجبال الرواسي التي تحمي الأرض من أن تميد بنا، الأب هو المرساة وهو الشراع. لو علم كل أب حجم ما يترتب على اهتمامه أو إهماله، لما احتجنا أن نعالج الكثير والكثير من الظواهر الاجتماعية التي تفشت وتكاد تقضي على ثرواتنا من الأجيال الحالية والقادمة!.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here