أرشيف

إعادة التفكير في الفشل والنجاح

المصدر

كلمة «فاشل وناجح» لم أجدها متداولة، وفق حدسي، في كتب التراث إلا بمعنى الظفر بالشيء لكلمة ناجح، ويقال رجل نجيح، وفاشل بمعنى ضعف وجبن، ووجدت «فاسد وصالح»، لكن كلمتي فاسد وصالح لا تحملان أي معنى تقني فني، بل تحملان معنى يمس الكينونة ولا يمكن استظهاره إلا بالتجربة الإنسانية في التعاملات بين البشر.
عندما بدأت الصحوة بتشويه المصطلحات وتحريف دلالاتها كان أول قبح مارسته هو في استبدال «الرجل القدوة بالرجل الواعظ» فمجرد أن تكون «واعظ/‏حكواتي»، فإن هذا يكفيك عناء أن تكون قدوة في أفعالك، فالقدوة تعني الالتزام «الفعل» والسلوك الأخلاقي القويم في تعاملك مع الناس أجمعين، بينما الوعظ لا يكلفك سوى «الكلام» عن هذه الصفات دون ضرورة الالتزام بها «فعلاً»، وتم اختزال معنى قدوة في مظاهر شكلية يستطيع اكتسابها مجرم خلال أسبوعين من إطلاقه بكفالة من التوقيف، «يومين لتسليم الثياب للخياط لتقصيرها، وأسبوعين لإطلاق اللحية»، أي أن القدوة بمعناها الحقيقي «صلاح العمل من أمانة وإخلاص وصدق في التعامل وخلق حسن» أصبحت جزءا هامشيا لا قيمة له أمام الشكلانية في «اللحية والثوب القصير».
وقد أدى اعتماد هذه المظاهر بديلاً عن معنى «القدوة» كممارسة يومية في المعاملة الإنسانية الراقية إلى تشويه الدين في نظر الكثير بسبب «سهولة متطلبات الصلاح»، مما جعل «المعتوه والمنافق واللص وكثيراً من السفلة» يتقمصون الشكلانية المطلوبة ويتسترون بها باعتبارها وفق شرط الصحوة «المعيار الحقيقي للصلاح» الذي فرضته على المجتمع، بينما شرط القدوة الحقيقي يكمن في «السلوك والتعامل الإنساني» وليس وفق «الثوب واللحية»، ومن المفارقات أن تجد مسألة اللحية في كتب الفقهاء الأوائل لا تتعدى «كتاب الزينة» كقضية ثانوية وضعتها الصحوة أمراً يكاد يكون الفيصل بين المؤمن و«الفاسق».
ليس بالضرورة استبدال كلمة ناجح بصالح، وفاشل بفاسد، بل المهم هو إعادة التفكير -وهذا المقال لا يهدف إلى أكثر من هذا- لنلاحظ مثلاً أن كلمة فاسد وفق معيار العلم الحديث لا قيمة لها عندما يقول أحدهم: الحجامة ممتازة تخرج الدم «الفاسد» من جسدك، لأن كلمة دم «فاسد» لا قيمة علمية لها، فهل الحجامة تخرج «دما» يختلف عن الدم الذي يخرج من جرح عابر في طرف إصبعك أثناء تقطيع تفاحة؟!!.
كذلك كلمة ناجح التي تم استنزافها في «دلالة مدرسية» تقتضي الحصول على «الدرجات المطلوبة»، ولهذا غفل العموم عن إشكالية مهنية ولدت إشكالات أخرى، ففي المنطق التداولي العادي بإمكاننا أن نكون «وزراء، وزيرات، محامين، محاميات، محققين، محققات، أطباء، طبيبات، معلمين، معلمات، مهندسين، مهندسات، أكاديميين، أكاديميات، مدراء، مديرات، حتى أن نكون آباء، أمهات»، لكن ما يتم تجاهله غالباً أن الوصول للمسمى لا يعتبر في ذاته نجاح، فالأمر يختلف جذرياً في واقع الحياة، فكم من «وزير فاشل، محام فاشل، وطبيب فاشل، ومهندس فاشل، وأكاديمي فاشل، ومدير فاشل، وحتى زوج أو زوجة وصولاً لأب أو أم فاشلين».
كلمة «ناجح/‏صالح» يجب أن تستعيد دلالتها «التقنية» لتعني أنه «كفؤ» فيما نسب إليه، والكفاءة المقصودة بمثال واضح: أن تحتاج عملية قلب فيكون أمامك طبيبين للقلب أحدهما في سنته الأولى بعد التخرج في تخصص الجراحة، لكنه حافظ لكتاب الله وصحيح البخاري ومسلم ويصلي الضحى أثناء الدوام، والآخر طبيب استشاري تجاوز الأربعين من العمر ليس مسلم يتابع في الفائض من وقته آخر الأبحاث في مجال تخصصه، فمن هو «الأكثر صلاحاً/‏نجاحاً» للقيام بعمليتك الجراحية؟ هذا هو الصلاح بدلالته البكر، وليس بالدلالة التي اصطنعتها الصحوة لتملأ مثلاً الميدان التعليمي بمظاهر شكلية جعلت «المعلم الصالح/‏الناجح» يضيع معناه «كقدوة» في الحفاظ على المعايير المهنية للتعليم، في وسط مجموعة من «الوعاظ» المتنمرين على مدير المدرسة لمنحهم أفضل التقدير لكونهم وعاظاً بغض النظر عن كفاءتهم المهنية كمعلمين في مادة الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو الحاسب.
وأخيراً إلى من يربكهم استعادة المعنى الطبيعي لكلمة «فاسد وصالح» من الصحوة التي شوهت كثيراً من مفردات قاموسنا التداولي، ولا يفهم إلا كلمة «ناجح وفاشل» نذكره بأن حصولك على أي «لقب» مهني أو اجتماعي لا يقتضي أبداً تفوقك، فالمعلم «الصالح بمعنى الناجح في مجاله المهني» أفضل من كل «المعلمين الفاسدين بمعنى الفاشلين في مجالهم المهني».
ويبقى القلق الأكبر من اللقب الأكبر لمنصب «وزير» فكل سيرة ذاتية مليئة بالنجاحات «المدرسية، الأكاديمية، ثم التجارية» قد ترسب بامتياز في اختبار كرسي «الوزارة»، لأن الوزير يمثل مصالح الدولة بما في كلمة «دولة» من دلالات تمثل مصالح شعب من ملايين الأنفس، وعلى العقلاء أن يتخيلوا «وزيراً» أمضى تجربته العملية بصفته مديرا تنفيذيا لإحدى أهم الشركات «الرأسمالية»، وعندما تسلم الوزارة بدأ يفكر بعقليته القديمة في أنه مدير تنفيذي بمسمى وزير، لتراه يتعامل مع «الشعب/‏المواطنين» كمجموعة استهلاكية يجب استثمارها لصالح «الحكومة التي يراها كمجلس الإدارة» في أول الأمر سيعطي انطباعا عمليا ممتازا على مستوى الأرقام، لكنه على مستوى «الشعور الوطني» سيخلق فجوة خفية بينه كممثل للحكومة وبين المواطن بأنه «رأسمالي» يشبه في تصرفاته وقاموسه وكل تسهيلاته سلوك «البنك» لتصبح هناك جفوة ما بين المواطن وهذا الوزير.
فالوزير يعتبر «ممثلا لمصالح الشعب»، وليس «ممثلا لمصالح مجلس الإدارة»، وهذا النمط السلوكي لمن عمل بصفته «مديرا تنفيذيا» قد يصيب أي وزير له سابقة عمل بهذا المجال الرأسمالي، وقد تحرك لا وعيه ضد مصالح مواطنيه في سبيل «أرقام مجردة» يحققها قد ترضي التاجر/‏صاحب الشركة الذي يفكر بعقل «رجل الأعمال»، لكنها قطعاً لن ترضي السياسي الذي يفكر بعقل «رجل الدولة».
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here