أرشيف

أزمة الشرعية في أوروبا

المصدر

تأليف: فيفيان أ. شميت
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

يبدو أن هناك علاقة متبادلة بين الشرعية الديمقراطية على المستوى الأوروبي وأزمة منطقة اليورو المستمرة منذ عام 2010، كما نقرأ في هذا الكتاب الذي تسلط مؤلفته الضوء على هذه الأزمة، ودورها في تأجيج السخط السياسي والاجتماعي، وتجد أن هناك حاجة إلى معالجة مشكلات الشرعية الأوروبية، وإعادة تنشيط الديمقراطيات الوطنية، وإعادة التفكير في مستقبل الاتحاد الأوروبي بشكل أكثر تكاملاً وديمقراطية.

يسعى هذا الكتاب إلى إظهار مدى أهمية الجمع بين الطرق المختلفة التي أوضح فيها العلماء ومحللو السياسة أزمة منطقة اليورو، وأدركها الفاعلون السياسيون والمواطنون. وينظر الكتاب في الأزمة من وجهة نظر التخصصات والمجالات المختلفة، بما في ذلك الاقتصاد الكلي والجزئي، والاقتصادي الاجتماعي، والاقتصاد السياسي الدولي والمقارن، والعلاقات الدولية والسياسية المقارنة، وعلم الاجتماع والتاريخ، وكذلك بالطبع نظرية الديمقراطية.
توفر الأطر التحليلية المختلفة في الكتاب رؤى مميزة، سواء أكانت مؤسساتية عقلانية، أو مؤسساتية تاريخية، أو مؤسساتية اجتماعية، أو مؤسساتية استطرادية. يبني الكتاب مناقشته على كل هذه المقاربات، لكنه يميل إلى المؤسساتية الاستطرادية، لأنه قادر على استخدام نتائج المؤسسات الأخرى بشكل منتج، مع توفير جسر لمسائل الشرعية. فضلاً عن ذلك، ومن خلال النظر في ثلاثة مفاهيم معيارية واسعة للغاية للشرعية تتعلق بالأداء والسياسة والإجراءات، تعاين الكاتبة التأثير التجريبي للأزمة في الاقتصاد السياسي والسياسة والحكم في الاتحاد الأوروبي. تستخدم الكاتبة عدسة الشرعية لأجل استكشاف شامل لأسباب وعواقب أزمة منطقة اليورو.
وتشير الكاتبة إلى أن أزمة الشرعية في أوروبا عبر «الحكم بالقواعد وبالأرقام» في أزمة الديون السيادية، خلّفت دماراً في اقتصاد منطقة اليورو، وساعدت في تأجيج السخط السياسي لدى الشعوب الأوروبية. وعبر استخدام عدسة النظرية الديمقراطية، يقيّم الكتاب شرعية الأنشطة الحاكمة في الاتحاد الأوروبي أولاً من حيث الجودة الإجرائية «الإنتاجية»، من خلال رسم المسارات المختلفة للجهات الفاعلة في الاتحاد الأوروبي إلى الشرعية، ثم تقييم فاعليتها السياسية (الناتج)، والاستجابة السياسية (المدخلات).
إضافة إلى التحليل الجذاب والمميز لإدارة الأزمات في منطقة اليورو وتأثيرها في الشرعية الديمقراطية، يقدم الكتاب عدداً من الأفكار النظرية حول السؤال الأوسع المتمثل في عمل الاتحاد الأوروبي، والحكم الذي يتجاوز الحدود الوطنية بشكل عام.

سياسات متقلبة

تقول الكاتبة: «كان عام 2010 صعباً بالنسبة للاتحاد الأوروبي. كان هذا هو العام الذي تصاعدت فيه مشكلة صغيرة نسبياً مع عجز دولة صغيرة نوعاً ما مع الناتج المحلي الإجمالي الذي يمثل أكثر قليلاً من 2 في المئة من الاقتصاد الأوروبي، إلى أزمة الديون السيادية الكاملة التي أصبحت تعرف باسم أزمة منطقة اليورو. لو استجاب قادة الاتحاد الأوروبي بسرعة أكبر فقط لطمأنة الأسواق بأن الاتحاد الأوروبي سيقف وراء الديون السيادية لكل دولة من الدول الأعضاء فيه، لكان من الممكن تجنب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الأزمة، ولكن لأنهم تأخروا حتى اللحظة الأخيرة، ومن ثم دعموا حلولاً لم تفعل الكثير لحل المشاكل الكامنة، استمرت الأزمة. ومع استمرارها، تحولت بسرعة من أزمة اقتصادية إلى أزمة أكثر على صعيد الشرعية، مع وضع حكم الاتحاد الأوروبي موضع تساؤل».
وتضيف: «في ذروة أزمة منطقة اليورو، تم اتخاذ قرارات رئيسية تؤثر في ملايين الأوروبيين وراء أبواب مغلقة من قبل صناع السياسة في الاتحاد الأوروبي، مع محاولة صغيرة لاستشارة الناس من خلال القنوات السياسية العادية، ولم تنجح السياسات! عانى الاقتصاد الأوروبي بطء النمو وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة عدم المساواة والفقر. ليس من المستغرب أن السياسة في رد الفعل أصبحت متشككة ومتقلبة بشكل متزايد، حيث انعكس فقدان المواطنين للثقة العامة في الاتحاد الأوروبي والسلطات الوطنية في التحول المتكرر للحكومات القائمة، ونهوض الأحزاب المتطرفة والحركات الشعبوية».
من خلال تأطير الأزمة باعتبارها أزمة تبذير عام (بدلاً من الإفراط الخاص)، ومن خلال تشخيص الأسباب على أنها سلوكية (الدول الأعضاء التي لا تتبع القواعد)، وليست هيكلية (مرتبطة بتصميم اليورو)، تقول الكاتبة فيفيان أ. شميت: «لم يجد قادة الاتحاد الأوروبي حاجة تذكر في إصلاح اليورو أو تخفيف آثار الأزمة. وبدلاً من ذلك، اختاروا تعزيز القواعد المنصوص عليها في المعاهدات، بناءً على معايير التقارب لعجز البلدان والديون ومعدلات التضخم. واتفقوا على تقديم عمليات الإنقاذ للقروض إلى البلدان الواقعة تحت ضغوط السوق مقابل ضبط مالي سريع، وإصلاحات هيكلية تركز على تحرير أسواق العمل، وخفض تكاليف الرعاية الاجتماعية. في غياب أي تكامل سياسي أعمق يمكن أن يوفر تمثيلاً ديمقراطياً أكبر، وسيطرة على حكم يتجاوز الحدود الوطنية يتسع باستمرار، وفي مواجهة الانقسامات الرئيسية بين الجهات الفاعلة في الاتحاد الأوروبي حول ما يجب القيام به وكيف، انتهى الاتحاد الأوروبي إلى الحكم بموجب القواعد والأرقام في منطقة اليورو».

تحديات كبرى

كان التحدي الذي يواجه الجهات الفاعلة في الاتحاد الأوروبي مع استمرار الأزمة بلا هوادة هو كيفية تجاوز قواعد المعاهدة إلى قواعد أكثر قابلية للتطبيق في سياق يصعب فيه تغيير القواعد، وتعلق فيفيان أ. شميت على ذلك قائلة: «إن الاتحاد الأوروبي لا يشبه أي ديمقراطية وطنية، حيث يمكن إضفاء الشرعية على تغيير السياسة من خلال الانتخابات التي تجلب حكومة جديدة قادرة على تفعيل إرادة الشعب والحكم باسمها. نظام الحوكمة في الاتحاد الأوروبي لا يجعل من الصعب عليه فقط التوصل إلى اتفاقات تولد أفضل الحلول؛ بل يجعل الأمر أكثر صعوبة لتغيير أي قرارات، مهما كانت غير كافية».
وتضيف: «لم يكن هذا مجرد مسألة قيود مؤسسية أو عقبات قانونية أو منطق سياسي أو حتى تباين في المصالح الاقتصادية الوطنية. لقد كان أيضاً سؤالاً حول كيفية بناء الشرعية للتغيير في سياق مثل الطريق الذي تم اختياره مبدئياً للتغيير، وتسبب في المزيد من مشاكل الشرعية. مع تزايد قلق الجهات الفاعلة في الاتحاد الأوروبي بشأن استمرار الأداء الاقتصادي الضعيف والتقلبات السياسية المتزايدة، بدأوا في إعادة تفسير القواعد، وإعادة معايرة الأرقام (عن طريق التخفي)، أي من خلال الإعلان عن أنهم يلتزمون بالقواعد حتى مع تزايد المرونة في تطبيقهم».
في إطار جهود إصلاح السياسات وتهدئة النظام السياسي، تشير الكاتبة إلى أنهم بدأوا أيضاً في تقديم ابتكارات سياسية لحل بعض المشكلات الهيكلية لليورو. ولكن في حين أن كلاً من إعادة تفسير القواعد وابتكارات السياسة قد أسفرت عن نتائج أفضل، إلا أن القواعد دون المثالية ظلت قائمة، ولم يتم حل العيوب الهيكلية في منطقة اليورو. ونتيجة لذلك، ظل النمو الاقتصادي ضعيفاً، ونمت خيبة الأمل العامة، وعلى الرغم من الاعتراف العام بقواعد إعادة التفسير التي ظهرت أخيراً في عام 2015، فقد تم إلحاق الضرر بها»، مضيفة: «ونتيجة لذلك، منذ أن بدأت أزمة الديون السيادية في عام 2010، كان الاتحاد الأوروبي ليس فقط في خضم أزمة اقتصادية، بل أزمة شرعية تتعلق بمشاكل أداء السياسة والاستجابة السياسية والجودة الإجرائية. في حين أن الأمور قد تكون متحسنة مع تباطؤ الأزمة، وحيث وجد ممثلو الاتحاد الأوروبي طرقاً مبتكرة لتخفيف القواعد، ومن ثم تحقيق نتائج أفضل، لكن لا يزال هناك الكثير الذي يتعين فعله».
وفي ما يتعلق بالسؤال المتكرر عما إذا ما كان الاتحاد الأوروبي شرعياً ديمقراطياً، تجيب: «إذا كان من الممكن فهم الشرعية ليس فقط على أنها قبول ضمني للمواطنين للسلطة الحاكمة في الاتحاد الأوروبي، ولكن من حيث موافقتها النشطة على نشاط الاتحاد الأوروبي الحاكم، فإن الأمور لم تكن أبداً مشكلة كما كانت في أعقاب أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو. تشمل التحديات التي تواجه الشرعية السياسات التي كانت غير فعالة إلى حد كبير في حل الأزمة الاقتصادية، والسياسات التي أصبحت أكثر انقساماً وتقلباً على نحو متزايد، والعمليات التي بدأت بقواعد وأرقام مقيدة للغاية، ولكنها تحولت ببطء بمرور الوقت، دون اعتراف عام حتى وقت قريب».
وتوضح الكاتبة أنه «خلال سخونة أزمة منطقة اليورو من 2010 إلى 2012، قرر قادة الاتحاد الأوروبي في المجلس الأوروبي مجموعة من السياسات التي سعت قبل كل شيء إلى احتواء الحريق. أولاً، رفضوا الدعوات إلى مزيد من التضامن الاجتماعي في شكل إعفاء من الديون، أو تبادل الديون لمصلحة صناديق إنقاذ القروض بشروط قاسية للبلدان المعرضة لخطر التخلف عن السداد، تحت إشراف الترويكا (المكونة من صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي، ومفوضية الاتحاد الأوروبي). وفي الوقت نفسه، من خلال الحزم التشريعية المتعاقبة واتفاقيات المعاهدات، عززوا قواعد حوكمة منطقة اليورو من خلال تحديد أهداف رقمية محددة للعجز والديون، مع فرض التقشف والإصلاح الهيكلي لجميع أولئك الذين يقعون في خطأ القواعد، والعقوبات وأولئك الذين فشلوا مراراً في الوصول إلى الأهداف. إضافة إلى ذلك، وافق قادة الاتحاد الأوروبي على تعزيز الرقابة على الميزانية من قبل مسؤولي بروكسل على جميع الدول الأعضاء من خلال (الفصل الأوروبي)، وهو ما يعني أن المفوضية مكلفة بمعاينة الميزانيات السنوية للحكومات الوطنية، حتى قبل مراجعتها من قبل البرلمانات الوطنية».
تجد الكاتبة فيفيان أ. شميت أن سياسات الحوكمة هذه فشلت في التعامل بفاعلية مع مشاكل الاقتصاد الأوروبي، وهو ما أثار تساؤلات حول شرعية الاتحاد الأوروبي عند تحديده من حيث الأداء السياسي، وتذكر أن النمو الاقتصادي ظل بطيئاً، بينما استمر تهديد الانكماش في أوروبا التي تتميز بالاختلاف المتزايد بين اقتصادات الفائض الغنية بالصادرات في شمال أوروبا. كما واجهت أوروبا بشكل عام «أزمة إنسانية» تأثرت بارتفاع الفقر وعدم المساواة إلى جانب استمرار ارتفاع مستويات البطالة، خاصة في جنوب أوروبا، وتحديداً بين الشباب. وأثارت خيبة أمل المواطنين من الأداء الاقتصادي الضعيف للاتحاد الأوروبي أيضاً تساؤلات حول الشرعية السياسية للاتحاد الأوروبي، المتعلقة بالمواطنين الذي يزداد لديهم عدم الرضا عن الاتحاد الأوروبي والسياسات الوطنية وسخطهم تجاهها، أصبح المواطنون ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي على أنه يبتعد أكثر فأكثر عنهم، والحكومات الوطنية أصبحت أقل استجابة لمخاوفهم في كثير من الأحيان.

بنية الكتاب

يبدأ الجزء الأول بالمفاهيم النظرية للشرعية في الاتحاد الأوروبي، ويستكشف مسائل الديمقراطية والشرعية في الاتحاد الأوروبي، ويحدد آليات التشريع الثلاث للإنتاج، والمدخلات، والإنتاجية، ثم يعاين المعايير الخمسة الرئيسية لشرعية الإنتاجية – الفاعلية، والمساءلة (بشكل عام وفي الاتحاد الأوروبي)، والشفافية، والشمولية والانفتاح. ويناقش معضلات شرعية «المستوى المنفصل» للاتحاد الأوروبي، حيث يعمل الناتج والإنتاج بشكل أساسي على مستوى الاتحاد الأوروبي، والمدخلات على الصعيد الوطني. ثم يصف تسييس حوكمة الاتحاد الأوروبي في الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى وفي القمة، وينتهي بسؤال: هل التسييس أمر جيد أم سيئ؟
يركز الجزء الثاني على شرعية الإنتاجية في حوكمة منطقة اليورو. يأتي هذا أولاً ليس لأنها أهم آلية شرعية في أي ديمقراطية، بل على العكس تماماً، ولكن لأنها مفتاح لفهم السبب الذي جعل الاستجابة للأزمة خاطئة جداً، وهو ما يؤدي إلى أداء خاطئ في الأداء وسياسة متقلبة بشكل متزايد.
ويفترض الجزء الثالث أنه من الأفضل البدء بنتائج السياسات السيئة والعواقب السياسية الكارثية من أجل إظهار مدى إشكالية عمليات الحوكمة. ويستكشف التأثير السياسي لحوكمة منطقة اليورو. يفصّل أولاً كيفية تراجع الثقة لدى المواطنين الأوروبيين وتشكل مظاهر السخط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ثم ينظر في الاستقطاب السياسي المتزايد للاتحاد الأوروبي وإعادة تنظيم الأحزاب في ظل تصاعد الحركات الشعبوية.
في الخاتمة، بعد وضع أزمة منطقة اليورو لفترة وجيزة في سياق دولي، يسأل الكتاب كيف يمكن أن يتحرك الاتحاد الأوروبي إلى الأمام، وكيف يمكن إصلاح حوكمة منطقة اليورو أثناء حل أزمة شرعية الاتحاد الأوروبي (اليورو). ولتحقيق ذلك، توصي المؤلفة بحوكمة أكثر تميزاً ولا مركزية لمنطقة اليورو في اتحاد أوروبي أكثر تكاملاً وديمقراطية.
(يقع الكتاب في 384 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن مطبعة جامعة أكسفورد في 15 يوليو 2020).

نبذة عن المؤلفة:

** فيفيان أ. شميت، أستاذة جان مونيه للتكامل الأوروبي، والمدير المؤسس لمركز دراسة أوروبا، جامعة بوسطن. خلال مسيرتها المهنية البارزة، نشرت عدداً من الأعمال منها: «الديمقراطية في أوروبا» (2006)، و«مستقبل الرأسمالية الأوروبية» (2002).

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here