ترمب في الرياض.. زيارة بألف معنى بين المصالح السياسية والصفقات الاقتصادية
في مشهد يختلط فيه الدهاء السياسي بجاذبية الأرقام، تحط طائرة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في العاصمة السعودية الرياض، حاملاً معه ملفات ثقيلة تنوء بها طاولات القمم والمنتديات، بين ما هو مُعلن من شراكات اقتصادية، وما هو مضمر من حسابات إقليمية. الزيارة التي وُصفت بأنها “كبيرة” لم تكن مجرد وقوف عابر على سجاد المراسم، بل غوص مباشر في عمق التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة.
منذ اللحظة الأولى، بدا أن ترمب يريد لزيارته أن تُقرأ من بوابة المال قبل أن تُفكك من دهاليز السياسة. مشاركته في منتدى الاستثمار السعودي-الأمريكي لم تكن رمزية، بل جاءت مدفوعة برغبة في اقتناص فرص تتجاوز المليارات. وجود شخصيات مثل إيلون ماسك ولاري فينك، رئيس شركة بلاك روك، أضفى على الزيارة طابعًا استثماريًا عميقًا، يُشبه إلى حد كبير حملات تسويق جماعي تستهدف تحويل الرؤى الطموحة إلى واقع مالي ملموس.
وقد ترددت أرقام ثقيلة خلال المحادثات، منها تعهد السعودية بضخ نحو 600 مليار دولار في استثمارات استراتيجية، وتطلع ترمب، الطامح للعودة إلى سدة الحكم، إلى انتزاع تعهدات بتريليون دولار إضافي من المملكة. ولعل هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الصفقة، بل تحمل معها طموحًا أمريكيًا في إعادة رسم دور واشنطن في اقتصاد الخليج، بالتوازي مع تموضع جديد تحققه الرياض عالميًا ضمن رؤية 2030.
لكن خلف هذه القفازات المخملية، تتوارى أصابع السياسة. فقد بحث ترمب مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ملفات ملتهبة في المنطقة، أبرزها البرنامج النووي الإيراني، والحرب المستعرة في غزة، ومستقبل إنتاج النفط في ظل التوترات العالمية. هذه الملفات لا يمكن فصلها عن الاقتصاد، إذ إن النفوذ السياسي والاستقرار الأمني هما الوجه الآخر للعملة التي تتعامل بها الدول في بورصات العلاقات الدولية.
إن ترمب، الذي عرف عنه تحويل الملفات السياسية إلى فرص اقتصادية، بدا خلال هذه الزيارة ملتزمًا بنفس النهج: فإذا ضمنت له السعودية شراء معدات أو الاستثمار في البنى التحتية، فهو مستعد لمواقف أكثر مرونة حيال القضايا السياسية الحساسة. وهذا النمط من المقايضة السياسية-الاقتصادية كان سمة بارزة في فترته الرئاسية، ويبدو أنه ما زال يسعى لتوظيفه كأحد أوراقه في حال عودته إلى البيت الأبيض.
زيارة ترمب تكشف عن مشهد معقد، تتقاطع فيه المصالح بطريقة لا يمكن تفكيكها ببساطة إلى معادلات سياسية أو صفقات اقتصادية. فكل صفقة اقتصادية كبرى تخفي وراءها تفاهمًا سياسيًا ضمنيًا، وكل حوار سياسي حول إيران أو غزة، يرتبط بصورة أو بأخرى بإمدادات الطاقة وحسابات الأسواق.
وقد عبّر ترمب سابقًا، بشكل فجّ لا يخلو من صراحة صادمة، عن هذا التداخل، حين قال إنه مستعد لزيارة السعودية إذا وافقت على شراء منتجات أمريكية بقيمة 500 مليار دولار. ورغم أن هذه التصريحات قد تُقرأ في سياق شعبوي، فإنها تكشف بوضوح عن فلسفة رجل يرى أن النفوذ يُقاس بحجم العقود، وأن التحالفات تُبنى على أساس منافع ملموسة.
من جهتها، لم تكن السعودية مجرد متلقٍّ في هذه الزيارة، بل بدت وكأنها من رسم إيقاعها. فالرياض لم تعد تلك العاصمة التي تكتفي بالترحيب والحفاوة، بل أصبحت مركز جذب عالمي، تعرف متى تفتح أبوابها، ومع من تُبرم التفاهمات. ومن خلال استثمارها في الابتكار، والذكاء الصناعي، والطاقة المتجددة، تسعى لتكون لاعبًا مؤثرًا لا فقط في الشرق الأوسط، بل في الاقتصاد العالمي بأسره.
ولذلك، فإن استقبالها لترمب لم يكن محصورًا في بعد سياسي ضيق، بل كان جزءًا من لعبة كبرى، تقودها المملكة بحسابات دقيقة، تُراعي موازين القوى الإقليمية والدولية، وترتكز على مشروع وطني يتجاوز النفط والاعتماد التاريخي على الحليف الأمريكي.
ترمب لم يزر السعودية فقط، بل زار فكرة. فكرة أن العالم تغيّر، وأنه لم يعد من الممكن فصل السياسة عن الاقتصاد، ولا الأمن عن الاستثمار. كانت زيارته مرآة عاكسة لهذا الزمن المتداخل، حيث يصبح الرئيس السابق مرشحًا مستقبليًا، ورجل الأعمال صفقة سياسية تمشي على قدمين.
وإذا كانت الرياض قد فتحت له الأبواب، فإن السؤال الأهم هو: هل سيعرف ترمب كيف يحوّل هذه الزيارة إلى ورقة رابحة في سباقه السياسي؟ وهل ستجني السعودية من ورائها تحالفًا أكثر استقرارًا، أم أنها تراهن على الحصان الخطأ؟ ما بين المال والنفوذ، تبقى المنطقة كلها على رقعة الشطرنج.