«لم ينجح أحد»!
عاطف الغمري
وكأن الكلمات الموجزة التي يفترض أن تلخص نتيجة المناظرة بين ترامب وبايدن هي: «لم ينجح أحد»، صحيح أنها كانت عبارة تقليدية لوصف نتائج امتحانات التلاميذ في المدارس، لكن ما جرى في المناظرة من حيث الشكل والمضمون، والتصرفات، والكلمات المتبادلة، هبطت بمستوى المناظرة الرئاسية إلى هذا الدرك – على حد وصف أحد المعلقين الأمريكيين.
وما جرى يمثل تراجعاً عما كانت عليه المناظرات في بداياتها، ثم ما تلاها من سنوات. ولنتأمل مثلاً المناظرة بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون، حيث حرص كل منهما على ارتداء ثياب رسمية، والالتزام بطريقة إلقاء الخطاب، والتحدث عن المنافس الآخر، بطريقة تنعكس على نظرة الناخبين، في تقييمهم لقيمة ووقار المتنافسين، أيا كان من سينتهي السباق لصالحه.
حتى إن بعض المحللين الأمريكيين وصفوا أداء الاثنين في هذه المناظرة، بأنها أشبه بوقار أساتذة الجامعات.. وبالطبع لم يكن هذا يمنع من بعض التعابير الساخرة من كل منهما في وصف الآخر، لكن دون تجريح.
قبل مناظرة كينيدي ونيكسون كان بعض الدارسين في جامعات أمريكية قد طرحوا في عام 1956 فكرة المناظرة. ولقيت الفكرة استجابة كبيرة وكانت المناظرة بينهما في 26 سبتمبر 1960.
وفي كل المناظرات اللاحقة كان كل من المتنافسين يخاطب الرأي العام بشأن القضية التي تمثل الشغل الشاغل له.. وإذا كانت فيتنام هي القضية الأساسية في هذا الوقت، فإن كينيدي أدخل في القاموس السياسي للمناظرة مفاهيم جديدة عن العدالة الاجتماعية، وحسن العلاقة مع دول العالم الثالث وغيرها.
وحين جاءت الانتخابات اللاحقة بعد سنوات قليلة، فإن اهتمام الأمريكيين كان قد تزايد بقضية العنصرية، وحقوق الإنسان، ومن ثم كان لا بد أن تندرج في صلب خطب الرؤساء في المناظرة الرئاسية.
وتواصل هذا الأمر مع تنافس المرشحين بعد ذلك، وإن كانت مناظرة أوباما مع منافسه قد شهدت خروجاً إلى طريقة الهجوم الساخر.
ثم جاءت مناظرة ترامب وبايدن، لتوصف بأنها أكثر المناظرات الرئاسية فوضوية في التاريخ، وطغى عليها السباب والإهانات، والنبرة الهجومية الحادة، بل وصل الأمر إلى اتهامات متبادلة لأبناء المرشحين.
حدث هذا بالرغم من أن هذه المناظرات يسبقها تدريب لمدة أشهر، على طريقة ثقافة هوليوود، بإعداد الممثل لكي يكون أداؤه الدرامي على أفضل ما يكون. هذا التدريب الذي قام به خبراء متخصصون، لم يسفر عن النتيجة المتوقعة، إذ خرج المتنافسان عن كل ما هو معهود في المناظرات الرئاسية، وحولاها إلى نوع من السيرك غير السياسي، وليس مواجهة عقلانية ترجح كفة أيهما لدى الناخبين.
ولما كان أيهما لم يتحقق له الفوز في المناظرة، وكان الخاسر هو الشعب الأمريكي، لهذا انطبقت على النتيجة مقولة «لم ينجح أحد».
المفترض أن المواطن الأمريكي، سواء كان جالساً في قاعة المناظرة، أو أمام شاشات التلفزيون، ليعرف إجابة عن الكيفية التي ينظر بها كل مرشح لحل مشاكله. لكن كليهما خرج عن حدود المتوقع من الناخب، فلا حديث جدي في شؤون السياسة، بل تعرض للسمات الشخصية للآخر.
هنا لا أستطيع أن أغفل عن المنحى الذي جرّ ترامب المناظرة إليه. وهو الخطأ الذي وقع فيه بايدن، فمن قبل المناظرة، كان التوقع أن يشن ترامب وصلات من السباب والسخرية على منافسه. وحتى لا يبدو بايدن في موضع غير القادر على مجاراته، فإنه انجر وراءه.
على حين أن ترامب يختار هذه الطريقة وهو يعرف تماماً منذ انتخابات 2016، أنها ترضي قاعدته الانتخابية، فهو كان يخاطب مؤيديه أكثر مما كان يخاطب الأمريكيين عموماً. وهؤلاء المؤيدون له، هم الذين وصفهم المعلقون الأمريكيون بالمحبطين والغاضبين من النخبة السياسة التقليدية. وكان ذلك من أهم أسباب انجذابهم ناحية ترامب المتوافق معهم في رأيهم عن النخبة.
وإذا كان بايدن قد انجرف وراءه في التراشق بالألفاظ، والخلق المتبادل لجو الفوضى الانتخابية، فإنه بذلك لم يجذب إليه جمهوره، الرافض لطريقة ترامب.