الاستثنائية والبراءة الأمريكية
تأليف: روبرتو سيرفينت وداني هايفونج وغلين فورد
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
سمع وقرأ الأمريكيون أخباراً مزيفة على مدار تاريخهم مثل أنباء عن أن العبودية شيء من الماضي، وأنهم لا يعيشون على أرض مسروقة من سكان أصليين، وأن الحروب التي تخوضها بلادهم هي لنشر الحرية والديمقراطية في العالم، وأن السجون تبقيهم آمنين، والشرطة تخدم وتحمي. يقف المؤلفون عند هذه الروايات السائدة لدى مواطنيهم الأمريكيين، ويكشفون مدى صحة ما يثار إعلامياً وأدبياً في الوسط الشعبي الأمريكي.
يطرح المؤلفون أسئلة مهمة مفادها: هل حقاً «أنقذت الولايات المتحدة» العالم في الحرب العالمية الثانية؟ هل يجب على الرياضيين السود التوقف عن الاحتجاج وإظهار المزيد من الامتنان لما فعلته أمريكا من أجلهم؟ هل خاضت الولايات المتحدة الحروب لنشر الحرية والديمقراطية؟ أم أن كل هذا يصنّف ضمن الأخبار الكاذبة؟
يعاين الكتاب القصص التي تروج للشعب الأمريكي ومعظم الشعوب بأن الولايات المتحدة قوة من أجل الخير في العالم، بغض النظر عن العبودية التي مورست بحق السود، والإبادة الجماعية للسكان الأصليين، والحرب الإمبريالية لأكثر من قرن من الزمان، والتي أثارتها الولايات المتحدة على هذا الكوكب. يقع الكتاب في 256 صفحة من القطع المتوسط، وهو صادر عن سكاي هورس في ال 2 من إبريل 2019 باللغة الإنجليزية.
تسويق الأساطير
هذا الكتاب هو استجابة للشريحة التي تصطاد حالياً أولئك الذين يستفيدون في الغالب من ترويج وتسويق أساطير الاستثنائية والبراءة الأمريكية. يعلق المؤلفون على ذلك بقولهم: عبّر كل من المديرين التنفيذيين للشركات، والسياسيين أصحاب الملايين، وصقور الحرب العسكريين، عن قلقلهم في السنوات الأخيرة من هشاشة القوة الأمريكية على الصعيد المحلي والدولي. وعلى الرغم من انتشار البراءة والاستثنائية الأمريكية في كل جوانب المجتمع، إلا أن هناك العديد من الإشارات التي تفيد بأن الاستقرار البيئي المطلوب لهذه الأيديولوجيات للانتعاش في حالة من الانهيار.
تصبح التناقضات في المجتمع أكثر صعوبة على الاحتمال، وتقف الشرائح الأكبر من الشعب في حالة من الاحتجاج. جلبت حركات مثل «احتلوا وول ستريت» في 2011، و«حياة السود مهمة» في 2014، وصعود كلمة «الاشتراكية» في حملة بيرني ساندرز الرئاسية في 2016 مثل هذه التناقضات تحت الضوء.
ويقولون: «هدفنا هو إظهار كيف أن روايات البراءة والاستثنائية الأمريكية تعمل معاً في خدمة تفوق البيض، والإمبراطورية، والرأسمالية، وآلة الحرب الأمريكية. هاتان الأيديولوجيتان تعملان في بعض الأحيان معاً بطرق صريحة وواضحة. وفي أوقات أخرى، تكون مضللة أكثر».
ينظر الكتاب في المحادثات والنقاشات المتعلقة بالعبودية، وإبادة السكان الأصليين، والكتب المصورة، وحتى الرئيس دونالد ترامب الذي كان في السابق نجماً تلفزيونياً شهيراً. كما يدخل في مناقشة قصص باراك أوباما والروايات الرومانسية عن العملية العرقية، والجهود «الإنسانية» لبيل جيتس وأنجيلينا جولي، والعديد من الطلاب الذي يأملون في «تغيير العالم».
العمل الأيديولوجي للاستثنائية
تحاول مقالات الكتاب كشف العمل الأيديولوجي للسياق الاستثنائي الأمريكي. ويعالج كل مقال الأسئلة المعاصرة والتاريخية النقدية المرتبطة بتطور الأيديولوجية الاستثنائية الأمريكية. تشكل أربعة أجزاء متداخلة العمود الفقري لهذه الأيدلوجية، وتتضمن هذه الأجزاء:
(1) فرضية البراءة الأمريكية بالطرق التي نتذكّر فيها الإبادة الجماعية، والعبودية، والحرب.
(2) أسطورة الجدارة المخفية في «الحلم الأمريكي».
(3) شبق للغزو العسكري لكل أنحاء العالم.
(4) المطلب المستمر لأجل الإمبريالية أو حكم احتكار الرأسمالية لتوسيع مهمة الولايات المتحدة في تحضير العالم.
في المقالات ال 21، يحاول الكتاب تحليل أربعة أجزاء أساسية من الاستثنائية والبراءة الأمريكية لإيجاد إطار عملي لأجل فهم التاريخ والعالم المعاصر. يحاول المؤلفون إظهار أن فرضية البراءة الأمريكية الشعبية جداً في المجتمع الأمريكي توفر ستاراً دخانياً يحجب المعاناة والاستغلال الذي يحدث ضمن الحدود الأمريكية وما وراءها. فرضية البراءة هذه مرتبطة بعمق مع كيفية أن الناس العاديين في أمريكا يتشجعون حينها للصراع لأجل «الحلم الأمريكي» الذي يصبح بعيداً عن المتناول على نحو أكثر. في النهاية، البراءة والاستثنائية الأمريكية لا تجعل فقط المشاريع العسكرية مقبولة بشكل معلن، لكنها تعمل قاعدة أساسية تكون الأرباح الهائلة للشركات والبنوك محتجبة وسط المعاناة الهائلة.
يتعامل القسم الأول من الكتاب مع قضية الاستثنائية الأمريكية في سياق الذاكرة التاريخية، حيث يناقش ما إذا كانت «الثورة الأمريكية» ثورية للعبيد الأفارقة، وهو الأمر الذي يكون محرجاً جداً لأساطير الولايات المتحدة، ويتوقف عند من أطلق عليهم فرانز فانون «معذبو الأرض» الذين تم وصفهم بأنهم تهديد للإنسانية، وبذلك واجهوا باستمرار الاستغلال والإبادة من قبل دولة قائمة على الحرب.
كما يعاين الأساطير الشعبية، مثل دور الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، وكوريا، والحرب على الإرهاب لتقديم دليل على كيفية حماية أكثر الجرائم بشاعة للإمبريالية الأمريكية من الظهور من خلال إخفائها في السياق الاستثنائي الأمريكي.
ويركز القسم الثاني على دعامة أساسية للإمبريالية الأمريكية، وهي: تفوق البيض. ويرد في الفصل: «أخذ تفوق البيض مركز الصدارة في المناقشة السياسية السائدة منذ انتخاب دونالد ترامب. على العموم، الحوافز الأساسية لهذه النقاشات سعت إلى حفظ أساطير الاستثنائية والبراءة الأمريكية بدلاً من تحديها».
تسلط المقالات في هذا القسم الضوء على أهمية إبراز تفوق وامتياز البيض من وجهة نظر مادية، وترسيخ نظام الهيمنة البيضاء في التطورات الأخيرة. يجد المؤلفون أنه يستحيل فهم روايات البراءة والاستثنائية الأمريكية من دون استيعاب التجليات الحديثة لتفوق البيض.
القسمان الأخيران في الكتاب يحاولان توجيه ضربة قاضية إلى «الحس العام» للاستثنائية الأمريكية والبراءة الأمريكية، وعرض طريقة لظهور منظمين وقيادات من الناشطين الناشئين. ويناقش فيه المؤلفون بعض القضايا الحساسة التي تحدّد مصير مليارات الناس في أنحاء العالم مثل الاستفزازات العسكرية الأمريكية تجاه روسيا، صعود «التدخل الإنساني» كما تبين في ليبيا وسوريا، ومعاينة ركود وهبوط الرأسمالية الأمريكية.
حقيقة العَظَمة
يقول مؤلفو الكتاب: «في الوقت الذي كان فيه القرن العشرين يتسم بفساد إنساني لا مثيل له، فقد فيه ملايين الناس حياتهم في حربين كونيتين، وفقد الملايين حياتهم في حروب أصغر، كان من المفترض أن يبدأ القرن الحادي والعشرين بشكل مختلف. من المفترض أن التاريخ قد انتهى مع نصر الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، حيث أصبحت حضارتها محط حسد الجميع. على العموم، القرن الذي كان من المتوقع أن يكون فجر العَظَمة المتزايدة للولايات المتحدة، شهد الحرب في أول 17 أو 18 عاماً منه، مع إمكانية فعلية توضح حدوث الموت من خلال الحرب في هذا القرن إلى درجة يمكن أن يتجاوز بشكل كبير الملايين الذين فقدوا حياتهم في القرن الماضي».
ويضيفون: «يمكن أن نرى أن غزو أفغانستان وثم العراق، وحروب الطائرات من غير طيار، والتعذيب، والمواقع السوداء كجزء من الحرب على الإرهاب، نفّذ الحرب المدنية المعسكرة، وفرض الفقر على شعوب هذه الدول، بمساهمة من الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة، والشبكات الإعلامية الأمريكية، وشريحة كبيرة من العامة الأمريكيين. كيف يمكن حدوث هذا الأمر؟ كيف يمكن لدولة تزعم أنها وفية (للقيم العالمية) لحقوق الإنسان، والقانون الدولي، والديمقراطية، والحرية، والتقدّم الإنساني، أن تكون أيضاً البطل الرئيسي في الهجمات العالمية الممنهجة ضد الأبرياء؟».
«كدولة استثنائية، لا مثيل لها، أراد أوباما خلال فترة رئاسته أن يمنح الغطاء الإنساني للعديد من التدخلات، وحملات زعزعة الاستقرار، وعمليات رسم السياسات العالمية من طرف أحادي بالنيابة عن رأس المال الأمريكي والدولي، فكان من المتوقع بشكل كبير أن يجد قبولاً لدى مواطنيه الأمريكيين، المؤمنين بأن دولتهم تملك الحق، بل، واجباً أخلاقياً لفعل ما هو مناسب لإرساء النظام العالمي. يمكنها أن تفعل ذلك، لأن هذه القضية نبيلة ومحقة»، بحسب المؤلفين.
ويشيرون إلى أنه «دائماً ما كانت الاستثنائية الأمريكية تفترض البراءة الوطنية على الرغم من فرض قرون من الحروب والنهب. الدولة – الأمة الأمريكية كانت في حرب لأكثر من تسعين في المئة من تاريخ وجودها. هذه الحروب كلها مبرّرة كمشاريع ضرورية تهدف إلى الدفاع عما يسمى المعتقدات والقيم التأسيسية لأمريكا وتوسيعها. نتيجة قرون من الحروب اللانهائية كان الميل التاريخي للولايات المتحدة هو إزالة الوعي المحيط بالحقائق حول السياسة الدولية والمحلية الأمريكية، فضلاً عن نظام الإمبريالية الذي يحكم الاثنين».
تسويغ الاستعمار والرأسمالية
يناقش الكتاب الاستثنائية الأمريكية وأفكار البراءة الأمريكية وأنها لا تقدّم فقط التسويغ للاستعمار، والرأسمالية، والإمبراطورية، وتفوق البيض، بل تقدم أيضاً إطاراً نظرياً تطبيعياً لكيفية هيكلة العالم والشكل الذي ينبغي أن يكون عليه بحيث يجعل بشكل حتمي المجرمين خارج المعارضين للهيمنة الأمريكية ضمن الدولة وخارجها.
ويستشهد العمل بالليبرالي الأمريكي البارز بول غروكمان الذي يتكلم بوضوح عن هذا الإطار التطبيعي الذي يتم تقاسمه عبر الطيف الأيديولوجي من الليبراليين إلى المحافظين، وحتى بين بعض قوى اليسار، قائلاً:
«ظهرنا من الحرب العالمية الثانية مع مستوى من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية بشكل لم يسبق له مثيل منذ ذروة وجود روما القديمة. لكن كان دورنا في العالم دائماً يتجاوز مسألة المال والسلاح. كان دورنا أيضاً متعلقاً بالقيم، فأمريكا نهضت لشيء أكبر من نفسها، لأجل الحرية، وحقوق الإنسان وسيادة القانون كمبادئ عالمية. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، نحن وحلفاؤنا البريطانيون قمنا في الواقع بغزو جزء كبير من العالم. فقد أصبحنا محتلين دائمين، ونصّبنا حكومات شكلية تابعة لنا، على غرار ما فعله الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية. وفعلنا ذلك في الدول النامية. لكن ما فعلناه بشكل أساسي بدلاً من ذلك كان مساعدة الأعداء المهزومين ليقفوا على أقدامهم، وتأسيس أنظمة ديمقراطية تتقاسم قيمنا الأساسية، وأصبحت حليفة في حماية تلك القيم».
ويرى المؤلفون أن فشل اليسار الغربي بشكل عام واليسار الأمريكي بشكل خاص في فهم الارتباط المعقد والهيكلي بين الإمبراطورية، والاستعمار، والرأسمالية وتفوق البيض – وينبغي مواجهة وتفكيك وهزيمة كل عناصر ذلك التركيب الغاشم – يواصل منح شريان الحياة إلى نظام مستعد لاقتحام كل صناديق مزبلة التاريخ. هذا السبب الذي يبين أن الاستثنائية الأمريكية والبراءة الأمريكية لا تشكل شيئاً سوى شكل من التدمير البائس. كما أنها تزعزع استقرار الافتراضات المهيمنة والإطارات المفاهيمية المفروضة لليبرالية البرجوازية، وتصنع من المجتمع الأمريكي في شكله الحالي تهديداً وجودياً على الإنسانية العالمية.
كما يستشهد المؤلفون بمقولة للناشطة الحقوقية أندريا سميث: «بدلاً من السعي إلى الحياة والحرية والسعادة التي تعتمد على موت الآخرين، يمكننا تخيّل أشكال جديدة من الحوكمة قائمة على مبادئ التبادلية، والترابط، والمساواة. عندما لا نفترض أن الولايات المتحدة ينبغي أو سوف تستمر في الوجود، نستطيع البدء بتصوّر مختلف يتجاوز شكل دولة متأسسة على الإبادة والعبودية».
يقدمّ لنا هذا العمل في مجمله سلاحاً لإعادة تصوّر دولة أمريكية متحوّلة، لكنه يظهر أيضاً حقول الألغام الأيديولوجية التي يجب أن نتجنبها إذا ما كان الشعب الأمريكي مقدماً على إدراك إمكانية ظهور جديد وشعب جديد.