«الوفاء» للأسلاف
حسن العديني
إذا كانت هناك جائزة دولية للوفاء فسوف يتقاسمها الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وإذ كانت هناك جائزة للصلف والعدوانية فسوف يستحوذ عليها أردوغان دائماً وكل سنة، إلى أن يخرج من مضمار السياسة أو يرمى في القبر.
أنا أتكلم عن زعماء الدول، أما عن المشتغلين في السياسة وحتى عامة البشر فهناك ملايين على ظهر هذا الكوكب أوفياء للقيم والأفكار والعقائد والمثل العليا.
عدا مادورو وأردوغان تتفاوت النماذج بين الوفاء النسبي والجحود المطلق.
دينج هسياو بينج انقلب على سياسات ماوتسي تونج لكنه لم يتجاوز الحدود ولم ينكر إنجازات سيده السابق، أو أن يحط من قيمته في التاريخ، فضلاً عن أن يحرض عليه. وهسياو بينج لم يكن مذعناً تماماً في عهد ماو بل بدا معارضاً ولو بالصمت، ما تسبب في أن موجة الثورة الثقافية جرفته وألقت به في مزرعة جماعية لبث فيها سبع سنوات يكدح ويعرق ويمارس النقد الذاتي بأقسى الكلمات. ولولا شفاعة «شو ان لاي» ما لقي صفح وغفران «ماو» كي يعود ثانية إلى المستوى الأول في قيادة الحزب الشيوعي والدولة الصينية ويدير من وراء قبطان صوري دفة السفينة.
سبق هؤلاء جوزيف ستالين الذي التزم نهج لينين مع صرامة أشد وقسوة أعنف. ولقد انتقده خورتشوف في المؤتمر العشرين في الحزب الشيوعي السوفييتي سنة 1956. رماه بالحجارة وصور عهده كله مطبوعاً بالسواد متجاهلاً فضائله وأمجاده في دحر النازية وفي التصنيع الثقيل وما استلزمه من التصميم والنجاح في امتلاك مفاتيح العلم. مع هذا بقي جوهر السياسة، الالتزام بالدور الرائد للحزب الشيوعي، الأمر الذي فرط فيه غورباتشوف من بعد، وإن لم يرفع المعاول ويحطم أصنام الذين سبقوه.
نبقى هنا عند تجارب ماثلة وفيها ينتصب الوفاء المطلق من سائق عربة النقل الثقيل نيكولاس مادورو لضابط المظلات السابق هوجو شافيز حيث تمسك بخياراته الاجتماعية المنحازة للطبقات الفقيرة، كما حافظ على القرار الوطني مستقلاً عن الهيمنة الأمريكية رغم شدة الحصار والمرارات.
أما الآخر الذي يشاطره «فضيلة الوفاء»، فهو التركي رجب طيب أردوغان. وهذا في الواقع لم يخلص لأسلافه القريبين بل انقلب عليهم بأساليب في منتهى الذكاء. لقد اختار الجيش حامي العلمانية وقام بتفكيكه وإعادة بنائه، وبالتالي استطاع أن يقتل مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك دون أن يحرق صوره أو يكسر تماثيله. ترك أردوغان أتاتورك يملأ دروب المدن والقرى، لكن الذي يتسلل معه إلى البيوت ويعشعش في حقول السياسة والتعليم هو محمد الفاتح.
من هنا تجلى «وفاءه» الكبير للسلطنة العثمانية وماضيها الاستعماري حيث راح يشن الحروب على الشعوب المحيطة بتركيا في سوريا والعراق ثم يتطاول ويرسل سلاحه والمرتزقة والجيوش إلى ليبيا ويؤوي الإرهابيين في مصر ثم يعتدي على حقوق الدول في محيط البحر المتوسط وفي قلبه. ولا يلبث أردوغان أن يتذكر وحشية آل عثمان، وخصوصاً الإبادة الجماعية للأرمن التي راح ضحيتها مليون ونصف المليون من البشر.
يعيد أردوغان الكرة الآن، ويتدخل بإرسال المرتزقة والسلاح، وبالقصف المباشر لأرمينيا في حربها الحالية مع أذربيجان.
يكاد أردوغان أن يكون نموذجاً لهتلر جديد بمخالب حادة ولكن قصيرة.