بين القصة والمقال
شكوك!
بدرية البشر
كانت الرحلة على نهايتها، وكان يعد حقيبته، حين أدرك أن ثقلاً يحط على قلبه، مثل عاصفة رملية، بسبب كل تلك الشكوك التي تكالبت عليه.
رغم كل الفرح والحب وكل الضحك الذي رافقه في رحلته، لا شيء استطاع تخليصه من عبء الشكوك.
في المطار، نبهته الموظفة أن لديه وزناً فائضاً اضطرّ معه أن يدفع الفارق، وحين مر من قنطرة التفتيش أوقفه الموظف، وصرخت في وجهه صافرة الإنذار.
فتشه الجندي، ثم قال لزميله ضاحكاً: «مجرد شكوك!».
غرفة نومه كانت كما هي، لم تتغير، بدا له أنها أصبحت أضيق قليلاً، لكن زوجته كانت متوجسة، هذا ما بدا حين أفلتت منها ريبة خانقة زاحمت هواء الغرفة.
قررت أن تنام، تاركة بينها وبينه مسافة «ملأتها الشكوك».
شكوك.. يلعب في عِبّها فأر!
د. عادل خميس
لست تدري كيف تحدث الأمور. تعتقد أنك تدري، وأنك مسيطر، لكنها تتسرب مثل تفصيل صغير في قصة، يهرب من الذاكرة، ولا تعود متأكداً إن حصل فعلاً، أو لم يحصل. تراودك الشكوك مثل فتنة. قلت لبدرية البشر: هل شاهدت فيلم (شك Doubt) لميرلي ستريب؟ لم تكن متأكدة، لديها شكوكها. حدث هذا حين عرضتْ عليَّ نصها القصير: (شكوك). ضخَّ الحماس في عروقي رغبة غريبة. طلبت منها أن أضع لمساتي عليه، فوافقت بتواضع جمّ.
تذكرت عواض شاهر؛ رفيقنا في باريس. ليس لأنه شاركنا ولادةَ القصة، ذات صباح، ونحن نتسكع في طرقات باريس، دون هدى. ثقافة، وفلسفة، وشعر، وسوسيولوجيا، وكثير من الضحك. وليس لأن عواضاً قرر يومها أن يكافئنا بغداء على حسابه، وقد كان حسابه عسيراً! تذكرت عواضاً لأني فعلت معه شيئاً مشابهاً؛ كان قد نشر نصاً في تويتر، وأُعجبت به جداً، وتحمست كالعادة (أصدقائي القدامى كانوا يسمونني المطفوق، لذلك لم يعودوا أكثر من مجرد أصدقاء قدامى). المهم، أني تحمست لنص عواض، وحررته بطريقتي، ثم أرسلته لعواض مع شيء من الثناء عليه وعلى نصه. رد علي عواض سريعاً، وشكرني بأدب، مستدركاً: لكني أحب نصي كما هو. خجلت، وطاح وجهي. ما أقسى الصحراء وبدوها!
في لحظة خشيت أن تفعل بدرية فعلَ عواض، لكنها كانت أحنّ قلباً، من عواض، ومن أحمد السماري. السماري كان رفيقنا في شوارع باريس أيضاً، وقد قال لنا قصة تشبه قصة شكوك، لكنه جعلها على شكل نكتة. ضحكنا. ثم استدرجه عبدالواحد الأنصاري لنقاش فلسفي، ووقع السماري في الفخ.
نص شكوك الذي تنشره بدرية هنا يبدو جديداً تماماً، وطازجاً، ولافتاً. قصة قصيرة، مثل رصاصة، من مدى قريب، لا تصيب أحداً، وربما تفعل. فكرة النص مجنونة، وعميقة، وجميلة. الشكوك تغدو حافزاً، وظيفةً ممتدة، تشعل الأسئلة، وتثير القلق. السلسلة السردية بسيطة؛ الرجل يعد الحقيبة، مثقلَ القلب، بسبب الشكوك، يذهب للمطار، لديه وزن زائد، يفتشه الجندي، يصل غرفة نومه الموحشة، زوجته تقلق، فتنام بعيدة عنه، بسبب الشكوك.
لنفكر في الوزن/ الثقل، الذي تتسبب فيه الشكوك، ولنرَ أثره الفيزيائي في القصة. يبدو للوهلة الأولى أنه وزن معنوي، لا حسي. لكن القصة تقول غير ذلك، لأنه يظهر همّاً ذا بعدٍ فيزيائي ممتد في الزمكان. (يبدأ بقلب المسافر، ويستحيل وزناً زائداً في الحقيبة، ثم يستفز -مثل معدن ممنوع- صافرات الإنذار في المطار، حتى يصبح مساحة حقيقية تفصله عن زوجته). الراوي الماكر يقول لنا بهدوء وثقة مَن لا يعلم شيئاً، يسير بنا بحذر طائش في حقل ألغام ناضج الثمار، ولا ينفجر منها سوى كل شيء. لكننا لا نموت، تكاد تقتلنا الحيرة، والدهشة ربما.
البطل، الشخصية الرئيسة، ليس إلا (هو)، لا شيء يشير إليه تحديداً سوى ضمير الغيبة. الشكوك تبدو أكثر حضوراً منه. يظهر مثل جهاز نقل (ميديم، أو ترانزمتر،…). ليس البطل بطلاً في رأيي، بل مجرد أداة، في يد الفيروس، فيروس الشك. مثل الكائنات الفضائية حين تتلبس بأجساد البشر، ولا نعلم لماذا تفعل ذلك.
الحديث مع بدرية في طرقات باريس، في شارع سان جيرمان تحديداً، كان له طعم خاص. حديث عن الحيوات الأخرى، وعن اليقين في مرحلة ما، اليقين المشبع بالشك، وعن المعنى في رحلة العمر، تلك التي نعتقد أننا سنجدها مثل تفاحة نيوتن، أو آدم.. هل هناك فرق؟
«بدرية.. I am still swinging (أنا لا أزال متأرجحاً)» أقول لها، فتضحك. كان عواض يفكر في الغداء الذي سفك ثمنه، والأنصاري يكاد يقنع السماري، يكاد أن يفعل، وأنا أفكر في المرحلة التي تتحدث عنها كاتبتنا الرائعة بدرية، أفكر فيها بغبطة مشكك عنيد، وأردد:
وأتتكَ ولهى بالوجود وسرِّهِ
الشكُّ دوْزَن بردَها وسلامها