الصعود إلى الهاوية… كيف وصل السودان إلى هنا؟
“نسيانُ أمرٍ ما… صعودٌ نحو باب الهاوية” – محمود درويش
تنطبق مقولة الشاعر محمود درويش التي تتصدر هذه الكتابة، على قصة كيف تصاعدت الأوضاع بسرعة في السودان، وانزلقت في دوامة الحرب الطاحنة التي تدور حاليا في الخرطوم ومدن سودانية أخرى. ففي 15 أبريل/نيسان 2023، وشهر رمضان يقترب من نهايته، اندلعت الحرب في السودان بين القوات المسلحة السودانية و“قوات الدعم السريع”.
وكان ذلك هو المصير الذي ظل يحذر منه كثيرون. فقد كان واضحا أن صراع النفوذ بين الرجلين قادم لا محالة، منذ انفراد الجنرالين بالسلطة بعد الإطاحة بحكومة الفترة الانتقالية ورئيسها دكتور عبدالله حمدوك يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
من أجل فهم ما يحدث الآن، نحتاج إلى النظر إلى الوراء. في 6 أبريل 2019، تدافع عشرات الآلاف من السودانيين والسودانيات، شاهرين هتافهم بمطالب الحرية والسلام والعدالة، وأعلنوا اعتصامهم حتى إسقاط نظام الرئيس عمر البشير.
حدث ذلك بعد أشهر من المظاهرات المستمرة التي بدأت في ديسمبر/ كانون الأول 2018 احتجاجا على النظام وتردي الأوضاع في البلاد، والذي بلغ قمته بعد ثلاثين عاما من حكم الفساد والاستبداد الذي دشنه انقلاب “الجبهة القومية الإسلامية” (النسخة السودانية من تنظيم الإخوان المسلمين) في 30 يونيو/حزيران 1989.
انحاز عدد من ضباط الجيش المتمركزين في القيادة العامة مثل النقيب حامد عثمان، والملازم محمد صديق، وخرجوا بجنودهم لحماية المدنيين المعتصمين في محيط قيادتهم من هجمات كتائب جهاز الأمن الذي كان يديره رجل النظام القوي حينها صلاح عبدالله قوش. تدريجيا، أجبرت حركة الانحياز المتزايد في أوساط الضباط والجنود إلى مطالب المعتصمين، قيادة الجيش على الإطاحة بالبشير في 11 أبريل 2019 واحتجازه في منزله قبل نقله إلى سجن كوبر.
انحازت “قوات الدعم السريع” إلى هذا الحراك بعدم التدخل. ومنذ وقت مبكر بعد اندلاع الثورة، أمر البشير قائدها محمد حمدان دقاو (حميدتي) بإحضار قواته إلى الخرطوم للتصدي للاحتجاجات وإخمادها كما فعلت في سبتمبر/أيلول 2013.
“ليست قوات حميدتي بل قوات حمايتي”
وكان مدير مكتب البشير آنذاك، محمد عثمان الحسين، أشرف على استخدام “الدعم السريع” في إخماد الاحتجاجات عام 2013، وهو ما نجحت فيه بقسوة بالغة وصلت إلى حد قتل نحو 200 من المتظاهرين السلميين في أقل من أسبوع واحد. ووصف أحد شهود العيان لاحدى منظمات حقوق الإنسان ما فعلته هذه “القوات” بالقول: “وقفنا، لكنهم أطلقوا النار”.
منذ ذاك الحين، أصبح البشير يقول عن هذه القوات إنها “ليست قوات حميدتي بل قوات حمايتي”، ولكن حميدتي اختار هذه المرة عدم التدخل، بعد أن بدا واضحا للجميع أن موجة الاحتجاجات ضد البشير ونظام الإسلاميين الحاكم، أعتى من أي تصور، ولن تتوقف قبل الوصول إلى مرادها بإسقاط الطغاة.
وتستحق قصة إنشاء “الدعم السريع” نفسها التناول. في 2013، أنشأ نظام البشير، الذي كان يخوض حربا أهلية في مساحة شاسعة، في غرب وجنوب البلاد، “قوات الدعم السريع”، كجزء من جهاز المخابرات والأمن الوطنية. لم يكن هذا التأسيس خلقا جديدا، بل إعادة تأهيل إحدى ميليشيات “الجنجويد” التي كانت موجودة بالفعل تحت قيادة حميدتي، الذي تم منحه رتبة عميد.
كان حميدتي، قائد هذه القوات، أحد قادة “الجنجويد” خلال العقد الأول من صراع دارفور. بل إنه تمرد لفترة ضد نظام البشير خلال الصراع. كشف حميدتي عن أسباب ذلك في تقرير تلفزيوني مع “القناة الرابعة” الإنجليزية؛ نعمة الباقر عام 2008، إذ تعلقت تلك الأسباب بنزاعات مالية وعوامل أخرى مرتبطة بمطالبه في الاعتراف الرسمي والرتب العسكرية الرسمية لنفسه وميليشياته.
حتى ذلك الحين كان حميدتي يصر على أنه ليس جزءا من أي جهاز رسمي وأنه يقاتل في دارفور استجابة لطلب شخصي من البشير بإحضار رجاله والانضمام إلى المعركة ضد المتمردين. فجأة، تم الإعلان عن الرجل الذي لم تكن لديه مهنة رسمية سابقة (كان حميدتي يعمل كتاجر جمال على الحدود السودانية- التشادية) كما لم يكن له تدريب عسكري رسمي سابق كعميد في صفوف جهاز الأمن والمخابرات الوطني عام 2013.
كان الفارق الرئيسي بين حميدتي وقادة “الجنجويد” من الطراز القديم أن حميدتي لا يتمتع بالوضع الاجتماعي للقيادة القبلية، وهو ما كان يحظى به موسى هلال وغيره من قادة “الجنجويد” السابقين. يبني الرجل نفسه باستخدام نفوذه المالي كرجل أعمال عصامي ناجح وقادر على التجنيد السريع لمقاتلين أشداء شديدي الولاء له. وأشار حميدتي إلى ذلك في مؤتمره الصحافي في مايو/أيار 2014، الذي ذكر فيه قدرته على تجنيد 100 ألف مقاتل للقتال من أجل النظام إذا لزم الأمر، لأنه ليس لهؤلاء المجندين مصادر دخل أخرى. كان الواقع الاقتصادي الذي خلقته الحرب التي اندلعت في دارفور منذ 2003، عاملا جذابا للانضمام إلى صفوف حميدتي، حين أصبح حمل السلاح أحد وسائل كسب العيش في المنطقة.
كان الاختلاف السابق ميزة لحميدتي في نظر البشير ونظامه. وكان يتم النظر إلى حميدتي على أنه متعطش للوضع الاجتماعي والاعتراف والقبول والاحترام التقليدي الذي تمنحه الرتبة العسكرية.
كذلك، لم تكن لديه مصالح قبلية تقليدية لحمايتها قد تتقاطع مع معادلة الإسلاميين لتوازنات القوى في المنطقة كما حدث مع موسى هلال. وكان حميدتي هو المرشح المثالي للوظيفة؛ سيف قابل للشراء من الطراز الأول ودون أي حمولات. وهكذا، عندما قرر جهاز الأمن الوطني تولي مهمة محاربة المتمردين بعد الإخفاقات المستمرة للقوات المسلحة السودانية، كان حميدتي ورجاله مستعدين للشراء.
عشوائية الرتب العسكرية
نجحت “قوات الدعم السريع” بشكل فاعل في إثبات نفسها بانتصارات متوالية. وهو ما منحها نفوذا كبيرا وأهمية لقيادة نظام البشير، لدرجة اعتقاله لفترات طويلة أصواتا سياسية ارتفعت بانتقاد هذا الكيان المشوه، والتنبيه لخطورة إنشاء قوات موازية لقوات الجيش.
كان أبرز هولاء المعتقلين آخر رئيس وزراء منتخب؛ الراحل الإمام الصادق المهدي، ورئيس “حزب المؤتمر السوداني” سابقا إبراهيم الشيخ، الذين اعتقلهم النظام لفترة طويلة وسجل ضدهم تهما قضائية في نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة بسبب انتقادهم لتكوين هذه القوات. وعلى صعيد موازٍ، أثار تزايد نفوذ “الدعم السريع” العسكري حفيظة الجيش، الذي اعترض كثير من الضباط في صفوفه على طريقة منح الرتب العسكرية عشوائيا لهذه القوات. وهو ما شكل بوتيرة متزايدة بذرة الخلاف الحالي.
في 3 يونيو 2019، شاركت “قوات الدعم السريع” في معية قوات تابعة للمجلس العسكري الذي تم تكوينه بعد إسقاط البشير في فض الاعتصام المنعقد أمام مباني القيادة العامة للجيش، للمطالبة بتسليم الحكم لحكومة مدنية تمثل قوى الثورة في السودان.
شهد ذلك اليوم مجزرة دموية لا يزال يتذكرها السودانيون بكثير من الأسى. ولكن على أثرها اندلعت المظاهرات مرة أخرى بشكل واسع أجبر المجلس العسكري على التفاوض مع المدنيين والاتفاق على الوثيقة الدستورية وتكوين حكومة مدنية انتقالية بمجلس سيادة مدني عسكري.
ورأس الحكومة عبدالله حمدوك في أغسطس/آب 2019.
بينما كان العسكريون وعلى رأسهم برهان وحميدتي في مجلس السيادة الذي ترأسه برهان وعين حميدتي نائبا له. وكان من المتفق أن يتم تسليم رئاسة مجلس السيادة في الثلث الأخير من الفترة الانتقالية لرئيس مدني. ولكن عند اقتراب هذا الميقات، قام العسكريون بانقلابهم في 25 أكتوبر 2021، معلنين فض الشراكة، وعمليا انتهاء عملية الانتقال المدني الديمقراطي في السودان.
لم تكن الفترة الانتقالية التي سبقت هذا الانقلاب سلسة. حيث تزايد نفوذ العسكريين في الحكم جراء سعي كثير من القوى المدنية للاستعانة والاستقواء بهم في مواجهة الحكومة المدنية غير الحزبية في المرحلة الأولى.
كما تزايد النفوذ الاقتصادي والإقليمي لـ”قوات الدعم السريع”، وتزايدت اتصالاته الخارجية وصلاته في الإقليم، وكذلك بنى صلات اقتصادية وعسكرية وطيدة مع “مجموعة فاغنر” الروسية التي استعانت به لعملها في منطقة الساحل، واستعانت بحميدتي وقواته في النفوذ الروسي في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، وليبيا التي دعم فيها حميدتي بقواته الجنرال خليفة حفتر عام 2019.
في الداخل، ظل العسكريون يضعون العراقيل أمام الحكومة المدنية. واستعانوا ببقايا النظام لإثارة النزعات القبلية والإقليمية لتضييق الخناق عليها. وصل ذلك إلى تشجيع مجموعات محلية على إغلاق ميناء بورتسودان، المنفذ البحري الرئيسي للبلاد، وتشجيع تنظيمات سياسية منشقة عن تحالف “قوى الحرية والتغيير” لإقامة اعتصام أمام القصر الجمهوري للمطالبة بإسقاط حكومة حمدوك في التمهيد لانقلابهم. شكلت هذه المجموعات المنشقة الداعم السياسي الرئيسي لانقلاب 25 أكتوبر، وهي ما عرفت لاحقا بمجموعة “الكتلة الديمقراطية”، والتي كانت أغلب مكوناتها من مجموعة التنظيمات الموقعة على اتفاق سلام جوبا في أكتوبر 2020.
لكن تحت الرفض الواسع للانقلاب وضغط المجتمع الدولي لإنهاء الحالة، وافق شريكا الانقلاب على الانخراط في عملية استعادة مسار التحول المدني الديمقراطي.
تبييض السمعة
ومضى حميدتي أكثر في سعيه لتبييض اسمه أمام المجتمع الدولي في تبني خطاب الديمقراطية والحقوق والتحالف مع المجموعات الموقعة على الاتفاق الإطاري. ونجح في ضم عدد من حلفائه المدنيين المقربين لهذه المجموعة مثل إبراهيم الميرغني، وزير الاتصالات في عهد البشير، والذي تربطه علاقات نسب مباشرة بمدير مكتب البشير السابق محمد عثمان الحسين، الأب الروحي لـ “قوات الدعم السريع”. وأثر هذا على تقديم تنازلات من بعض المكونات المدنية المرهقة والمتلهفة للعودة للسلطة عبر هذه العملية وتصفها بـ “اللعبة الوحيدة” بالميدان.
ولكن ما حدث من تعثر في مسار العملية السياسية، كان عرضا للمرض الأكبر الذي أصاب الفترة الانتقالية منذ بدايتها في 2019 وأدى إلى تعثرها حتى انتهت بانقلاب 25 أكتوبر 2021، وهو السعي إلى تسييس الإصلاح في أجهزة الدولة والاستفادة منها لتحقيق مكاسب للأطراف المختلفة إلى أقصى حد ممكن.
وعرقل هذا الاستقطاب مهمة إصلاح القطاع الأمني والعسكري، منذ البداية، إذ قاومت المكونات العسكرية، سواء كانت في الجيش أو “الدعم السريع”، هذه العملية منذ بدء الفترة الانتقالية، وعرقلت أي إجراءات عملية للمضي فيها قدما، وانحصر الخطاب والعمل السياسي الرسمي حول إصلاح القطاع الأمني في الترتيبات الأمنية المتعلقة باتفاق سلام جوبا، وكان عدم بدء وتقدم هذه العملية أحد الأسباب التي مهدت وأدت إلى انقلاب 25 أكتوبر.
وبدلا من إنهاء الانقلاب وإعادة الانتقال المدني الديمقراطي إلى مساره المرتبط بأهداف الثورة والتغيير وعمليات إصلاح ضرورية ذات طابع جذري وتأسيسي في جهاز الدولة بشقيه المدني والعسكري، أصبح هدف العملية السياسية محاولات حثيثة – ورخيصة للأمانة – للعودة إلى السلطة دون تمحيص فيما يحدث بعد ذلك.
وتم استخدام كل أدوات التضليل والبروباغاندا في الترويج لهذه العودة باعتبارها انتصارا لإرادة شعبية، بينما الإرادة الشعبية لا تزال – رغم إرهاقها المتزايد من الوضع الحالي – تنظر بكثير من الشك إلى مخرجات هذه العملية المتعثرة.
كما أن تقلب تحالفات الانقلابيين مع القوى السياسية، وتحولها من ضفة “الكتلة الديمقراطية” إلى الانخراط مع المجلس المركزي، إلى جعل هذه العملية جزئية بشكل يهدد قدرة مخرجاتها على تحقيق أي استقرار، ناهيك عن استعادة مسار الانتقال.
وأدى تحول العملية إلى مجرد ساحة لحصد مغانم سلطوية، إلى تحويل نقاش القضايا إلى مساومات “خذ وهات”، لا يتم التركيز فيها بشكل كبير على الأهداف المتعلقة بالانتقال نفسه، وكما أدى إلى استشراء داء تسييس قضايا الإصلاح ومهام الفترة الانتقالية المختلفة بما جعلها فرصة ليحصد كل طرف من الأطراف السياسية ما يستطيع من مكاسب، ولأن دافع القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري أصبح مجرد الرجوع إلى السلطة فقد كانت الأكثر كرما في منح التنازلات.
أداة لبناء الديمقراطية؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا يريد العسكر؟ حصانة من المحاسبات، فمنحوهم الحصانة في عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، وحاولوا إخراجها عبر نقاشات فوقية لقضية العدالة الانتقالية بمناقشة تجارب كولومبيا وجنوب أفريقيا، ولكن أغفلت مناقشة المسؤولية السياسية عن الجرائم التي تم ارتكابها، بما حول مخرجاتها إلى محض تقنين كامل للإفلات من العقاب، وتمت تحلية الصفقة بالمشاركة في تبييض اسم وسمعة “قوات الدعم السريع” وقائدها حميدتي والتي بدأت بتسميته “شخصية العام لحقوق الإنسان” في السودان واستمرت في إعادة تقديمه كحليف للقوى الديمقراطية.
يذكر أنه عُقدت ورشة معالجة إشكالات اتفاق جوبا دون مشاركة أغلب الموقعين، ودون مناقشة حقيقية لماهية هذه الإشكالات على أرض الواقع، ولم تخرج سوى بتكرار الورشة مرة أخرى في جوبا ودون توصيات ذات معنى تعالج الأزمة الحقيقية في فترة الانتقال، وهو تعريفها كفترة لإنجاز مهام الإصلاح وإعادة البناء وليس الصراع على الحكم والسيطرة.
ومضت ورش الاتفاق الإطاري (المبدأي) في منهج التسابق ذاته للانتهاء منها بأي شكل كان، انصرافا للتركيز على الجائزة والهدف الرئيس من العملية، وهو غنيمة السلطة، لكن الأمر انفجر في ورشة الإصلاح الأمني الأخيرة، والتي يتربع الفاعلون الأساسيون (الجيش وقوات الدعم السريع) في مناقشتها على سدة السلطة بالفعل، ولذلك سعى الطرفان إلى التركيز على حصد مكاسب سياسية طويلة الأمد لكل منهما على حساب الآخر، بغض النظر عن منطقية ذلك.
لكن الخطورة الأكبر في هذه العملية أنها مفصلية تتعلق بالتاريخ السياسي السوداني واستخدام السلاح فيه، بما جعل صراع السياسة مرتبطا بالسطوة والنفوذ العسكري القادر على الانقلاب على أي أسس متفق عليها ديمقراطيا، وجعل السودان يتصدر قائمة الدول الأفريقية التي شهدت أكبر عدد من الانقلابات ومحاولات الانقلاب، فعملية الإصلاح العسكري والأمني لا تصلح لأن تكون مرتعا للمزايدات السياسية، ومفاهيم مثل خضوع الأجهزة العسكرية للرقابة المدنية، ووحدة هياكل السيطرة والتحكم وقيادة القوات المسلحة في البلاد، وأساليب ومناهج التجنيد والتدريب والتسليح، ليست مرتبطة – ولا ينبغي لها – بالسعي لوجود حليف يملك السلاح والنفوذ العسكري للانحياز لفرض هذه الأجندة أو تلك، هذا خطأ منهجي وقعت فيه “قوى الحرية والتغيير”– ومن يمشي في ركبها – حين تحاول بناء هيكل ديمقراطي باستخدام أدوات قمعية، وقد أُسست “قوات الدعم السريع” خلال عهد البشير كإحدى أدوات القمع والحرب الأهلية، وهذا أساس متجذر لا يصلح معه تحويلها بين ليلة وضحاها إلى أداة لبناء الديمقراطية وتمدين الحياة السياسية، ذلك ناهيك عن أن حميدتي وقواته لم يوفرا جهدا في الانخراط في قضايا وشؤون إقليمية ودولية، تكشف بوضوح عن طموحات قائدها في استخدام هذه القوات كرافعة لطموحاته السياسية داخل وخارج السودان.
وعلى صعيد آخر، فإن الجيش السوداني مصاب بداء العمل السياسي. ولعبت فترات الحكم العسكري المطولة في البلاد، وآخرها في عهد التحالف بين “الجبهة القومية الإسلامية” والعسكر لـحوالى 30 سنة، دورا كبيرا في تحويل عقيدة القوات المسلحة في فهمها لعلاقتها مع جهاز الدولة من “الحماية” الى “الوصاية”، بحيث أصبحت تعتبر نفسها كيانا فوق جهاز الدولة وليست جزءا منه؟ تمتد شواهد ذلك من تصريحات الجنرال البرهان وحتى الشعور الطاغي لدى “الخبراء الاستراتيجيين” الذي يعتبرون أن أي هراء يقولونه هو من جوامع الكلم التي ينبغي أن يقتنع بها الجميع.
سباق مغانم
منذ وقت مبكر، أدرك الوسطاء الدوليون، التحول الذي حدث في طبيعة وأهداف العملية السياسية وتحولها إلى سباق مغانم يهدف إلى السلطة، ولذلك أصبحت وساطتهم تتركز حول هذه النقطة.
ولعل زلة اللسان أو الإشارة المقصودة، التي وردت في تقرير الممثل الخاص للأمين العام فولكر بيرتس الأخير لمجلس الأمن، أن بعض قادة الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا تسعى فقط لضمان مشاركتها في السلطة، تصلح للتعميم على جميع المشاركين في العملية، إذ إن بيرتس يعرف تماما أن هذه العملية، التي أصبح يلعب فيها بمعية آخرين دور المخرج، أصبح الغرض منها الوصول إلى معادلة لتقسيم السلطة وضمان النفوذ وليس دعم التحول الديمقراطي.
ولهذا أصبح الوسطاء الدوليون وموظفوهم في – أمم متحدة وسفراء واتحاد أفريقي وإيقاد وغيرها – يرددون بثقة بعض الدفوعات الغريبة وكأنها ثوابت منطقية، مثل عدم قبول برهان كقائد للجيش بخضوع الجيش لإدارة مدنية غير منتخبة، وهو في ذلك يشكك في شرعية هذه الإدارة في المقام الأول، فلماذا يشارك فيها.
وما هو هذا الوضع الغريب الذي يتمتع فيه جيش الدولة باستقلال عن الجهاز التنفيذي للدولة، شرعية الانتقال وحكومته هي من شرعية الثورة، ومن لا يقبل بهذه الشرعية، فالأولى به أن لا يشارك فيها، وثانية الغرائب أن حميدتي لا يعترض على أن يكون جزءا من الجيش، لكنه لا يرغب في أن يخضع أو يكون تابعا للقائد العام للجيش وأنه يفضل التبعية لرأس الدولة، ذي المهام الشرفية، ناهيك عن أن ذلك يجعل القائد العام ليس قائدا ولا عاما.
لم يخبرنا أي من هؤلاء الخبراء الأمميين عن كيف يستقيم هذا الوضع مع السعي لإنهاء تعدد الجيوش وحاملي السلاح في الدولة، وكل هذه الغرائب التي يتم التعامل معها كأسانيد منطقية في بلاد العجائب، مرتبطة بيقين هؤلاء الوسطاء أن الأمر لا يعدو مجرد مساومة على مائدة السلطة وليس سعيا لاستعادة مسار الانتقال بشكل حقيقي.
وفي هذا أيضا يدخل النقاش حول فترة دمج “الدعم السريع”، التي يتحدث البعض عن حاجتها لعشرة أعوام، وبينما يدفع آخرون بحاجتها لعامين فقط لتصبح الوساطة في إقناعهم بالقبول بحل وسط في خمسة أعوام، دون أن يجيب أحد هؤلاء الجهابذة على سؤال: إلى ماذا تستند هذه الأرقام؟
إذ إن “قوات الدعم السريع” لا تختلف عن الجيش في شيء سوى تركيبها القبلي وهو الأمر الذي ينبغي أن ينتهي في أي عملية إصلاح، ولكنها قوات كانت تحارب العدو نفسه، وبالعقيدة القتالية ذاتها، والأسلحة نفسها وكذلك التدريب، بل إن عددا مقدرا وكبيرا من ضباطها هم من الضباط السابقين في القوات المسلحة، فلماذا يحتاج دمجها إلى عشرات السنين؟ إذا لم يكن الأمر مجرد مساومة حول استمرار النفوذ السياسي لقائدها؟
أصبح المجتمع الدولي ووسطاؤه يسعون إلى مجرد الوصول إلى اتفاق، بأي شكل كان، وأصبح تركيز بعض – إن لم يكن غالبية – الموظفين والمبعوثين الاحتفال بانتهاء ناجح للعملية السياسية، بغض النظر عما ستنتجه، وإذا ما كانت تخدم أهداف الثورة والاستقرار والديمقراطية أم لا.
بطبيعة الحال، استغل الإسلاميون وبقايا النظام السابق التوتر وساهموا في تأجيجه سياسيا وعسكريا بغرض مزيد من الزعزعة وعدم الاستقرار في مسار الانتقال السوداني والانتقام من فقدانهم للحكم. بالأحرى فإن كثيرا من الأسانيد تؤيد أنهم كانوا وراء إطلاق الرصاصة الأولى في هذا الصراع، ولكن يظل طموح الجنرالين نحو الانفراد بالحكم الشمولي هو المحرك الأول للنزاع فيما بينهما.
كلا الطرفين – الجيش و “الدعم السريع”- شركاء على حد السواء في انتهاكات شهدتها البلاد وهي انقلاب 25 أكتوبر 2021.
والصراع الحالي بينهما هو معركة على غنائم ومصالح.
أمجد فريد الطيب