أرشيف

هكذا تكلم الصعيدي

المصدر

خلال سنوات طويلة والأدباء الجدد في مصر يحاولون كسر دائرة الطبقة المتوسطة التي ينتمون إليها، ويعبرون عنها ويكتبون لها، وقد كانت المحاولات المستمرة تتمثل في محاولات القصة والرواية التي تتخذ من الريف موضوعا لها ومن الفلاح بطلا، إلا أنه في كثير من الأحيان تكون الرؤية خارجية، ويكون الحديث عن الريف من خلال منظار المدينة، كما تكون المحاولة في بعض الأحيان مرتبطة بالشكل وحده أو بالمضمون وحده. قليلة هي المحاولات التي استطاعت أن تضع يدها على البداية الصحيحة والتي استشرفت آفاقا جديدة في التعبير.
فارس القصة القصيرة الذي فقدناه مبكرا يحيى الطاهر عبدالله، كان واحدا من هؤلاء الذين أدركوا الوحدة العضوية بين شكل القصة ومضمونها الجديد. كانت لغة القصة عند يحيى الطاهر عبدالله جزءا أساسيا من الرسالة التي يحاول نقلها، كان البناء جزءا من اللغة واللغة والبناء جزءا من التراث الصعيدي الذي يحاول الكاتب استلهامه وبعثه حيا. ونحن هنا أمام رواية جديدة للكاتب محمد مستجاب هي رواية، الرواية عمل جيد وجديد يحكي جزءا من التاريخ السري لـ«نعمان عبدالحافظ»، واحد من البشر النادر الغريب الذي ينشأ في قرى الصعيد، لا ينتمي إلى تركيبة طبقية ولا إلى قطعة أرض يملكها أو يزورها، ولكنه واحد من هؤلاء الذين ينشؤون حول القرى في الفراغ الفقير الذي يملؤه النبات الشيطاني الغليظ.
محمد مستجاب يكتب تاريخ حياة بطله الطفل والشاب بعد أن يضعه في مجرى التاريخ ويربط بين أحداث حياته وأحداث التاريخ في مصر وفي العالم، يقسم محمد مستجاب روايته القصيرة إلى فصول صغيرة محتشدة ومتقنة الصياغة لكي تتابع فترسم صورة لهذه الحياة الفريدة، يبدأ بتتبع الأصل والنسب ثم يغرقنا معه في مسألة «اليتم» المؤلمة، ثم محاولة ترويض الكيان الريفي المتمرد للخدمة عند السيدة الجليلة والجميلة، ويعود التيار الهادر المجنون للحياة الأسطورية مختلطا بتراث السحر والجنس والفقر، ويستعرض حادث «الختان» الطقسي الغريب، لكي ينتهي بوصف للعرس والجواز.
الرواية عمل يحتاج إلى دراسة نقدية جادة ومتأنية، ولكنه يشير دون شكل إلى عالم خاص وجديد يحمله محمد مستجاب، ويشير أيضاً إلى أن الكاتب يحاول في إصرار وصلابة كسر الدائرة الضيقة للموضوع الأدبي وللشكل الأدبي. لقد استطاع أن ينفذ إلى لب الحياة في الصعيد، إلى الخليط النادر بين الواقع الخشن والأسطورة والسحر، واستطاع أن يتقدم خطوة واضحة، فقد تمت صياغة الشخصية والأبطال بل والمكان نفسه من خلال المعرفة النابعة منهم، فحملت الجمل والكلمات واقع الصعيد وتاريخ ورائحة المكان.
إن الخطوة الواسعة الجديدة التي يقف محمد مستجاب على بابها هي تحديد الجمهور الذي يكتب له التردد بين الفصاحة والسخرية والعبث، يصيب البناء في بعض الأحيان بشيء من الافتعال لا يتفق مع شموخ المحاولة وصدق النوايا.
يستطيع هذا الصعيدي الذي وجد لغته ولسانه أن ينطلق من هنا إلى رواية مصرية جديدة نحن في أشد الحاجة إليها.
Next Page >

عن مصدر الخبر

المصدر

Editor

Ads Here