مشاحنات تثير القلق
محمود الريماوي
سوف يسيل حبر وفير، وتثور سجالات في مختلف المنابر، قبل أن يرى مشروع شبه غامض للرئاسة الفرنسية حول «التشكيك في قيم الجمهورية»، والمقصود قيم العلمانية، وفصل الدين عن الدولة. فقد بدأ الحديث حول هذا المشروع المتعلق بما سمّي «الانفصال الشعوري» في فبراير/شباط الماضي، ثم خفت الحديث عنه، إلى أن تجدد بعد قيام شاب باكستاني باستهداف مقر قديم لمجلة فرنسية ساخرة أعادت نشر رسوم مسيئة للرسول الكريم. وحسب التقارير، فإن المشروع سوف يعرض في ديسمبر/كانون الأول المقبل على مجلس الوزراء للنظر فيه وإقراره ثم إحالته إلى البرلمان للتداول فيه، قبل منتصف العام المقبل.
وللأسف، فإن المناقشات في بلد فولتير تدور في أجواء من التشكيك واهتزاز الثقة، رغم أن العلاقة بين المجتمعات المسلمة والسلطات تكاد تكون طبيعية، باستثناء ظروف الأزمات. وما يوتّر الأجواء حالياً، هو ما يظهر من تخصيص المسلمين دون غيرهم بالإجرات المنوي اتخاذها. وخاصة بعد أن أطلق الرئيس مانويل ماكرون تصريحه الذي قال فيه إن «الإسلام ديانة تعيش أزمة في كل مكان من العالم». وهي من المرات النادرة في زماننا التي يتحدث فيها رئيس دولة بصورة انتقادية عن دين لا يعتنقه. علماً أن الجامعات ومراكز البحث والمنابر الفكرية هي المكان الأفضل للنظر في أحوال الأديان وعقد مقارنات بينها، أما المستويات السياسية، فإنه لا يمكن أخذ كلامها بمعزل عن الإرث السياسي والتاريخي والغايات السياسية البراغماتية.
ومن المفارقات الإيجابية أن أبناء المستعمرات السابقة، وقد استقلت دولهم، ظلوا يؤثرون التوجّه إلى فرنسا والإقامة فيها بأكثر مما استهواهم أي بلد آخر. ومنهم من حظي ببعض التسهيلات، حتى نشأت أجيال من جاليات إفريقية ومسلمة، وقد تحول بعضهم باكتساب الجنسية الفرنسية إلى مكون ثقافي واجتماعي خاص داخل الحياة الفرنسية، وهو ما جعل الإسلام الدين الثاني في فرنسا، وعدد معتنقيه يناهز خمسة ملايين نسمة. وفي ظروف عادية، وبالأحرى أكثر إيجابية وتسودها الثقة، فإن حجم المسلمين يشكل مصدر غنى للمجتمع وللحياة الثقافية، خاصة أن نسبتهم لا تزيد على 8 بالمئة من العدد الكلي للسكان. وفي واقع الحال، فإنه ليست هناك مشكلات كبيرة مستعصية، ولا حوادث أمنية وجنائية متكررة تثير المخاوف. ومن الصعب، والافتئات على سبيل المثال، اعتبار جماعات السترات الصفراء بأنهم من مسلمي فرنسا، رغم أن عدداً منهم ظهروا بين صفوف هذه الجماعات، التي تمثل طيفاً واسعاً من الفرنسيين متعددي المشارب والميول والمنبت الطبقي.
وكل ما في الأمر، أنه باتت هناك حساسية عالية متراكمة، ترافقت مع ظهور اليمين الفرنسي المتطرف أواخر القرن الماضي، ثم مع أنشطة إرهابية للقاعدة، ثم انضمام جزء من اليمين للترويج لفوبيا الإسلام وصولاً إلى استخدام منصات التواصل والوسائط الرقمية للشحن وبث أفكار سوداء.. وهو ما يسمم الأجواء ويزرع بذوراً سامة في التربة الاجتماعية. والآن، فإنه من حق فرنسا كأي بلد آخر أن تسن القوانين الخاصة بها عبر الأقنية الدستورية التي تتلاءم مع قيم الجمهورية. وليس لأحد أن يعترض أو يشكك، من الخارج، وإن كان المجتمع المعني هو من يحق له خوض الجدل والتعبير عن نفسه.
المشكلة تقع، وقد وقعت هذه المرة، بالتأشير إلى دين بعينه، وبإجراءات تتعلق بممارسة الشعائر وبمن يتولون الوعظ الديني. وذلك باسم «مكافحة من يوظفون الدين للتشكيك في قيم الجمهورية»، وفق ما أفاد قصر الإليزيه. لقد كانت تنقص هذا التصريح كلمتان كانتا كفيلتين بجعله متوازناً وموضوعياً، بحيث تخرج العبارة هكذا: «مكافحة من يوظفون الدين، أي دين، للتشكيك في…». والأجدى من ذلك هو النأي بالنفس عن التعامل مع دين بعينه، ونزع أي طابع يستهدف عقيدة روحية في الإجراءات المنوي اتخاذها، والتركيز بدلاً من ذلك على إنفاذ القوانين وتطويرها بالتوافق مع المكونات الاجتماعية والأجسام التمثيلية.
إن الحوار بين الأديان ومعتنقيها وتوجيه الانتقادات لا يتم عبر المنابر السياسية، فالمسألة هذه فكرية وروحية يتم النظر فيها بتعقل بعيداً عن الانفعالات والتأويلات. ومن طرف مختصين يؤمنون بالتسامح والتعايش بين الأديان. وإذ يردد كثيرون أن إثارة قضية «الانفصال الشعوري» ذات صلة بالتحضير للانتخابات في العام 2022، فإن المرء يأمل ويرى أن المشاحنات ذات النزعة الدينية هي أردأ ظرف وأسوأ أداء يمكن أن تتسم به أي حملة انتخابية أو التحضير لها.
mdrimawi@gmail.com