مركزية الثقافة: الرياض تقصي المناطق وتهمش التنوع
في مشهد الثقافة والإعلام والترفيه السعودي اليوم، تُكشف مفارقة عجيبة تتجلى بين خطاب رسمي طموح يتحدث عن تطوير جميع المناطق وخلق مجتمع حيوي، وبين ممارسة فعلية تكرس هيمنة مركزية حادة للعاصمة الرياض على كامل المشهد. هذه ليست مجرد قضية اختلال جغرافي، بل هي نظام يعيد إنتاج نخب مغلقة ويُهمش مواهب حقيقية في مناطق المملكة المتنوعة، مما يُفرغ مفهوم التنمية الثقافية الشاملة من مضمونه ويصادر ثراء الوطن الحقيقي.
فلا يخفى على أي متتبع أن الغالبية الساحقة من الفعاليات -سواء في الأدب أو السينما أو الإعلام أو الفنون- تُحصر في العاصمة الرياض. المؤتمرات، ورش العمل، المهرجانات، الندوات النقدية، وحتى الفعاليات التي تحمل أسماء مناطق أخرى، تجد مقرها الأخير في قاعات الرياض، أو بإشراف مكرر من مسؤولين من الرياض. وإن تنوعت تبقى الأسماء كما هي لا تتغير، وتدور الدائرة على فئة محدودة للمشاركة في المهرجانات أو المؤتمرات أو غيرها.. هذا يطرح سؤالاً جوهرياً عن مكان الثقافة الحقيقية: هل هي حبيسة العاصمة الإدارية فقط، أم هي في تنوع الجغرافيا والتراث والاجتماع البشري من عسير إلى الجوف، ومن الحجاز إلى الأحساء؟ بل إن هذه المركزية تبلغ حد المفارقة عندما تُناقش قضايا وتراث مناطق معينة في غياب أهلها الحقيقيين، محبوسة في أروقة العاصمة، وكأن الثقافة سلعة موحدة تُصنع في موقع واحد وتُستهلك في البقية.
والأمر لا يتوقف عند الهيمنة الجغرافية، بل يتجاوزها إلى هيمنة أشخاص محددين يشكلون دائرة مغلقة. فالقائمون على الفعاليات في هيئة الأفلام والشؤون الأدبية والترفيه وغيرها يعودون دوماً إلى قائمة محدودة من الأسماء. هذه الأسماء تتكرر كمحاضرين ومدربين ومشاركين وضيوف شرف، محلياً ودولياً، في مشهد يُشبه توزيع أدوار في مسرح ضيق. هذه الدائرة المغلقة تخلق إشكاليات عميقة: فهي تقصي الكفاءات الجديدة والمختلفة، مما يفقد الحراك الثقافي حيويته وتجدده. وهي تكرس ثقافة “المعرفة الشخصية” على حساب الجدارة والموهبة الحقيقية. وهي تنتج خطاباً ثقافياً متشابهاً ينبع من خلفيات متقاربة، مما يحرم الجمهور والمشهد من ثراء التنوع والنقد البناء. وهي في النهاية تحول المشاركة الثقافية إلى امتياز لفئة، لا إلى حق للجميع.
هذا النظام المركزي يتجاهل عمداً، أو عن غير قصد، العواصم الثقافية التاريخية للمملكة. فجدة، التي كانت منارة ثقافية وفنية وأنتجت رواداً، والمنطقة الشرقية بتراثها الغني، وعسير بفنونها وأدبها، وحائل بإرثها المعروف، جميعها تتحول إلى هوامش في الخريطة الثقافية الرسمية. يبدو أن ثقافة “البرستيج” المرتبطة بالعاصمة تطغى على ثقافة الأرض والهوية الأصيلة.
وللمركزية هذه آثار سلبية متعددة المستويات. على مستوى الأفراد، تُحبط المواهب في المناطق الأخرى وتحرم من فرص التطوير والظهور، مما قد يدفع بهجرة الكفاءات نحو المركز، ويفقد مناطقها إشعاعها الطبيعي، ويخلق شعوراً عميقاً بالاستياء وعدم الانتماء. وعلى مستوى المؤسسات، فإن فروع الوزارات والهيئات في المناطق تتحول إلى مكاتب إدارية صماء بلا دور فاعل، مع إهدار للبنى التحتية الثقافية التي أنشئت باستثمارات كبيرة. أما على مستوى الوطن ككل، فالنتيجة هي ثقافة مشوهة لا تمثل التنوع السعودي الحقيقي، وحرمان للبلاد من ثراء كان يمكن أن يثري المشهد الوطني ويعزز الوحدة من خلال الاعتراف بالتنوع، وتعزيز لنظرة نمطية تجعل الثقافة حكراً على فئة أو جغرافية معينة.
إن معالجة هذا الخلل التاريخي تتطلب إرادة وإجراءات جريئة. منها إلزامية التوزيع الجغرافي العادل للفعاليات، بحيث لا تقل نسبة إقامتها خارج الرياض عن 60%، موزعة بعدالة على المناطق. وتفعيل فروع الوزارات والهيئات في المناصر لتصبح مراكز قرار حقيقية ذات ميزانيات ومهام استراتيجية، وليست مجرد واجهات إدارية. ووضع كوتات للمشاركين من كل منطقة في الفعاليات الوطنية والدولية، لضمان تمثيل حقيقي. وإطلاق برامج منهجية لاكتشاف المواهب في جميع المناطق، بدلاً من الاعتماد على دائرة معروفة مسبقاً. وربط تقييم أداء المسؤولين الثقافيين بمؤشرات تنموية تشمل جميع المناطق. وتخصيص ميزانيات مستقلة وكافية للفعاليات الثقافية في كل منطقة، تمكنها من الاستقلال في التخطيط والتنفيذ والإبداع.
فالثقافة الحقيقية ليست فعاليات فاخرة في أبراج العاصمة، بل هي حياة يومية تنبض في كل قرية ومدينة. وليست الرياض، رغم مكانتها، سوى جزء من نسيج هذا الوطن المتنوع. المركزية الثقافية تخون التنوع الذي يشكل هوية المملكة الحقيقية. للمملكة عواصم ثقافية متعددة: جدة، الدمام، أبها، حائل، وغيرها من المدن التي تختزن ثراءً يحتاج إلى منصة وإلى اعتراف. آن الأوان لتفكيك نظام “الصالونات الثقافية المغلقة”، وبناء نموذج ديمقراطي حقيقي، يعكس صوت المملكة بكل ألوانها. الثقافة التي تُصنع في برج عاجي وتُهمش الأصوات المختلفة، ثقافة مشلولة لا تستطيع أن تمثل أمة أو تصنع مستقبلاً. فمتى نرى خريطة ثقافية حقيقية تمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، بكل تنوعها وثرائها الذي يستحق أن يُسمع؟
خالد عبدالله الصالح
رابغ

