كُتّاب يحاولون ترميم هشاشة العالم بالكلمات
بما أن الأدباء والمبدعين بشر، يعتريهم ما يعتري الناس من سأم وملل، وشعور باليأس والإحباط؛ وترديد بعضهم مقولة «لا جدوى مما نكتب»، أو عبارة سعد زغلول الشهيرة «ما فيش فايدة»، فإن البعض يتمسَّك بالكتابة باعتبارها ملاذاً آمناً يحمي من متاعب، ويحرر طاقات النفس؛ ويبرز مواهب الذات الكاتبة؛ التي تحاول ترميم هشاشة العالم بالكلمات، وهنا نسأل عدداً من الكُتّاب، عن كيفية استعادة شغف الكتابة فيما لو افتقدوه؛ فترى الروائية أميمة الخميس أن السؤال يحتوي على افتراض خلافي، أو غير مُبرر، كونه عندما ندرج الكتابة في دائرة الفعل اليومي الروتيني مثل تسريح الشعر وتناول قهوة الصباح، فبالإمكان هنا أن نخضعها لتباين الأمزجة وطفرات الشعور، مؤكدةً أن «الكتابة تمدها بالترياق الذي يرمم هشاشة العالم وتلطف قوانينه».
فيما عدّت الكاتبة حليمة مظفّر، الشعور بالملل مبالغ فيه وغير موضوعي؛ كون الكتابة استراحة كونية للعقل والقلب والنفس؛ وتساءلت: كيف أفقد الشغف وأنا «لا أكتب إلا ما يستحق القراءة فعلاً أو لا أكتب». وأوضحت أن لديها أفكاراً تنوي كتابتها وتنتظر أن تنتهي منها، إلا أن الوقت يخونها عادة بسبب عملها ومتطلباته، وعدّت الكتابة مصدراً للاستمرار في الحياة وكما يقول العقاد: «إنني لا أتمنى أن أصل إلى سن المئة كما يتمنى غيري، وإنّما أتمنى أن تنتهي حياتي، عندما تنتهي قدرتي على الكتابة والقراءة».
فيما ذهب القاص جبير المليحان، إلى أن هذا سؤال يفترض إجابته، (ويجيب): الكتابة عمل، طريق حياة، وعندما يمل المرء من الحياة نفسها، فهو يستمر، كون الإنسان تنقصه الشجاعة ليعترف أن الحياة سخيفة، ولذلك يجبن عن أن ينهيها، وليس أمامه من سلاح سوى الكتابة.
ويرى الكاتب الببلوغرافي خالد اليوسف، أن الكتابة مثل أي فعل إنساني يعتمد على الطاقة والقدرة المتجددة، والدافع الداخلي الذي تراكم مع الأيام وأصبح عادة وطبعاً وسلوكاً لدى كل كاتب. وقال اليوسف: «يكفي لهذه الحالة المزمنة أنها بدأت معي منذ نعومة أظفاري، ولهذا أتعهدها بالقراءة ثم القراءة وأرعاها بالاطلاع والمتابعة وأحافظ عليها من أي تأثير يمر علي، كي لا ينعكس عليها فتتوتر وتصدم وتصاب بالخيبة مني». وأوضح أنه عوّد الكتابة على أن تسير على شقين لكي لا يمل أحدهما من الآخر؛ كتابة إبداعية قصة قصيرة ورواية، وكتابة بحثية علمية، مضيفاً بأنه يحاول دوماً أن لا تطغى إحداهما على الأخرى! مؤكداً أنه يقلق عندما يُكلّف بعمل إلزامي، وينتابه الضجر والتعب من الكتابة البحثية العلمية، فيما الكتابة الإبداعية علاج الروح والنفس. ولاغنى عنها مهما ابتعدت، وعدّ الكتابة الإبداعية دواءً من كل داء، وبلسماً لا يشعر بها إلا من يمارسها منذ بدايات حياته.
فيما ذهب القاص ظافر الجبيري إلى أن الشعور العاطفي يفقدك المتعة العقلية، ويأخذ منك الشغف، فتخسر الاستمتاع بالأعمال التي كانت تشعرك بالرضا والتحدي، مشيراً إلى أن الحياة المعاصرة باتت تبث الكثير من هذه المشاعر التي إن تعاظمت كبلت الإنسان وجعلته يسقط في الروتين ومرادفاته، موضحاً أن الملل يقابله النشاطُ والحماسُ والعملُ بشغف مع الشعور بالمتعة والجدوى.
ويرى أن الملل الذي يشوبنا أو يشوب نفسياتنا وسط مجرياتها يتسرب إلى النفس وحماستها والروح وعطائها، ويمتد إلى الورقة والقلم ولوحة المفاتيح بل إلى اليد التي ينطلق منها الفعل البشري، مؤكداً أن الكاتب اليوم يتداوى بأمور منها النشر، وحين لا يجد ناشراً متحمّساً ولا يصله تفاعل يتناسب وما يُنتظر من الساحة، ولو بإشارة عابرة سلباً أو إيجاباً حول ما كتب، فإن الأمر يغدو محزناً، ويرى أن الآلية الأنسب في ممارسة القناعات والاستمتاع بها!
ومن هذه القناعات قناعة الصمت والانكفاء حيناً، وقناعة الاكتفاء بالفرجة على العمر يجري والأحلام تتبخر حيناً آخر، مع ما في ذلك من تشاؤم مصدره الملل أيضاً؛ إلا أن هذا الأمر لا يطول، فنعِد أنفسنا مجدداً، ونبدأ بمعالجة الأسباب، ومن ذلك درء أخطار الواقع والتشبث بالأمل والتحفيز الذاتي واجتراح البهجة وكسب ودّ ذلك الوحش الرابض في الأعماق، وأضاف؛ لدي أمل كبير في النشر لأدفع هذه المشاعر جانباً. فمجموعتان وأكثر في الأدراج أو في (حاسوب الانتظار) تحتاج إلى اقتحام المؤجل وخلق المنافسة مع الزمن وإنجاز ما يجب أولاً بأول.
محمد الدميني: عليه انتظار «الجنّ» للإلهام
الكتابة مهنة كأي مهنة أخرى، ولهذا ستحلّ دائماً اللحظة التي ستصبح فيها الكتابة ضرباً من الملل أو التكرار أو الهذيان، ربما كانت الكتابة الصحفية، أو الكتابة عبر المنصات الاجتماعية أقل اضطراباً، بمعني أنها متواجدة وحيوية، ومتكيفة مع اشتباكات القراء والمعلقين مدحاً أو قدحاً، لكن الكتابة الإبداعية شعراً أو نثراً هي الأكثر تأثراً باحتمالات الملل والارتباك، وربما الصمت لفترات زمنية تقصر وتطول، لأن العزلة الإبداعية تزيد مخاوف الكاتب من كائناته الإبداعية، ومدى تماسكها وصمودها لتشكل نصاً حياً، مكتملاً، لا لقيطاً، ومتجاوزاً لما سطّره في نصوص وأعمال سابقة.
ولكن كيف يستعيد الكاتب وهج كتابته؟ لمن يلجأ؟ وحده من سيواجه الحقل المحترق الصامت، وعليه أن يخترع كل الحيَل لحراثة حقله وسقايته.
كثيرة هي حلول الدعم والمساندة، لكنني أعتقد أن ما سينجد الكاتب حين يخيم عليه صدأ المخيّلة وقلق الإبداع، هو القراءة؛ فالقراءة والكتابة هما نسيجا مادة واحدة، هي الكلمات ممزوجة بالخيالات، أما القراءات المقصودة هنا فهي القراءات المتنوعة والمتعانقة أحياناً، وحين تنغلق النوافذ على الكاتب، فإن عليه أن يخرج من سياقه الإبداعي، على الشاعر أن يخرج من ثياب الشعر، وعلى السارد أن يخرج من سجاجيد نثره وأن يتجه نحو حقول المعرفة الإنسانية والاجتماعية والفنية والنقدية، ليذهبوا إلى الأفلام السينمائية الفارقة، إلى الموسيقى، إلى الأعمال التشكيلية، فكل تلك نواتج مخيّلات خصبة وساحرة وموقظه للأحاسيس والخيالات، والفنون والآداب بطبيعتها تتبادل هذا التلاقح والإغناء المستدام، وعلى الكاتب أن يكون زائراً منتظماً لهذه الضفاف، وأن يمنح نفسه الوقت اللازم لاختمار وتفاعل مشاهداته حتى تنبجس منها شعلة أو برقٌ ما.
وإذا لم تنفع هذه الوسائل، فإن عليه أن يأخذ دشاً ساخناً، كما كتب أحد ملهمي التحفيز الإبداعي، وأن يستلقي في فراشه، فلربما أسعفه جنّي الإلهام قبل حلول الصباح!!